×
محافظة المنطقة الشرقية

السيستاني ومرجعيات شيعية في النجف يدعمون مبادرة التصدي لـ «العنف»

صورة الخبر

النسخة: الورقية - دولي «إنه فيلم بسيط... بسيط الى حد انه يكاد يشبه اغنية طيبة». هذا الكلام قاله ذات يوم واحد من كبار نقاد فن السينما ومنظّريه، بيلا بالاش، عن فيلم بالكاد كان يتذكره احد في ذلك الحين. وهو فيلم يحمل توقيع واحد من اكثر مخرجي السينما السوفياتية تكتماً وتعرضاً للنسيان: بوريس بارنت. فالواقع ان بارنت هذا، والذي سيعيد نقاد السينما (الفرنسيون بخاصة) الاعتبار إليه في سنوات الستين من القرن الماضي، آثر دائماً ان يعمل في صمت، من دون ان يسعى الى إثارة اي ضجيج من حوله ومن حول افلامه التي لم تكن كثيرة العدد. اما الفيلم الذي نحن في صدده هنا، فهو «الوطنيون» الذي اشتهر أكثر في العالم باسم «اوكرايينا» وهو عمل نُظر إليه بعد نصف قرن من تحقيقه على انه قصيدة للحب والحياة، وأنشودة مكرسة للأخوة بين البشر. ولعل اكثر ما يحضّ على هذا النوع من التفكير تجاه «اوكرايينا» المشهد الأخير فيه والذي يجمع في مسيرة أخوية واحدة، الى آخرين، مزارعاً روسياً فقد ابنه في الحرب العالمية الأولى خلال معركة مع المعتدين الألمان، وأسير حرب ألمانياً. طبعاً نعرف ان مثل هذه المواقف الإنسانية التي تتجاوز الشروخ السياسية، تكاثرت في السينما الأوروبية طوال القرن العشرين (ونفكر هنا، مثلاً، بـ «الوهم الكبير» لجان رينوار، طبعاً) ولكن في العام 1933 الذي حقق فيه بوريس بارنت هذا الفيلم، لم يكن هذا النوع من التفكير، امراً عادياً في اوروبا التي كانت طبول الحرب بدأت تقرع فيها، إثر سيطرة النازيين على السلطة وعلى عقول الناس في ألمانيا، في عز استشراء المواقف والنزعات الشوفينية في الاتحاد السوفياتي الستاليني. > في مثل ذلك المناخ الأوروبي الحادّ والصاخب، لم يكن من السهل على سينمائي ان يحقق فيلماً عن الأخوّة بين البشر. ومع هذا فعلها بارنت وحقق هذا الفيلم. وكان «اوكرايينا» اول فيلم ناطق يحققه، في وقت كانت السينما السوفياتية لا تزال فيه متخلفة (حتى العام 1934 وبعد سريان السينما الناطقة في العالم كله، كان لا يزال ثمة في الاتحاد السوفياتي من يحقق افلاماً صامتة)، كما كانت تعليمات الحزب الحاكم تنهال كالمطارق على رؤوس المخرجين، بمن فيهم ايزنشتاين. صحيح انه لا يمكن اعتبار «اوكرايينا» فيلماً متمرداً على إرادة السلطات الرسمية، لكنه لم يكن من نوعية الأفلام التي قد ترضي المكتب السياسي للحزب... ومع هذا حُقّق الفيلم وعرض، قبل ان يوضع على الرف. > وعنوان الفيلم يحيل الى بلدة صغيرة تقع عند الحدود القصوى لروسيا التي لم تكن سوفياتية بعد، هي «اوكرايينا» التي عرف المخرج خلال المشاهد الأولى للفيلم كيف يصورها تعيش حياتها الرتيبة المملة: الناس فيها ضجرون، والتثاؤب رياضتهم اليومية، ناهيك بالبؤس الذي كان ينتج من اوضاع اقتصادية تقرب من درجة الصفر. ولكن في خضم ذلك كله، تندلع الحرب العالمية الأولى. إذ نحن هنا في العام 1914... وسرعان ما تنعكس آثار الحرب على هذه البلدة، سلباً... ولكن ايجاباً ايضاً، إذ إن حركة الجنود تبعث شيئاً من النشاط، ناهيك بأن مصنع الأحذية الصغير في البلدة، والذي يمتلكه غريشين، يكلَّف بصنع احذية للجنود. ومن بين العمال الذين يستخدمهم غريشين في مصنعه اسير حرب ألماني، سرعان ما يطرد من المصنع، ليس لأنه جندي عدو، بل لأنه وهو الألماني يجرؤ على ايقاع مانيا، ابنة غريشين في غرامه. فالحرب، الى ما فعلته، ادت ايضاً الى استشراء الحس القومي، وكراهية الألمان... فكيف اذا كان الألماني جندياً وأسير حرب؟ > غير ان الأمور كان لا بد لها من ان تتغير، مع اقتراب الأوضاع السياسية في روسيا من التغيير... اذ مع مرور الوقت كانت ثورة شباط (فبراير) 1917 قد اندلعت، وكان البولشفيون الذين سيحققون بعد شهور انتصارهم النهائي، بدأوا يتحركون من دون وجل في اوساط الناس، ناشرين مبادئ جديدة لم يكن سكان مثل تلك المناطق يألفونها، حتى ولو كانت الثورة تبدت غير قادرة بعد على وقف المجزرة التي كانتها تلك الحرب، فإن شيئاً في الأذهان كان قيد التبدل، الى درجة ان الجندي الشاب كادكين يلوح له ذات يوم ان في إمكانه ان يتآخى مع الجنود الألمان الذين قيل لهم انهم ضحايا مثله وأن الجندي البسيط ليس هو من يقف وراء الحرب، بل هو وقودها. وإذ يحاول كادكين ذلك، يعدمه الضابط الروسي على الفور لأنه، في نظره «خائن الوطن». وإذ تمضي شهور قليلة على تلك الحادثة، تقع - اخيراً «المعجزة الصغيرة» - وفق رأي واحد من الفلاحين - وينتصر البولشفيون في ثورتهم في «اكتوبر». وفيما تكون مواكب المتظاهرين فرحاً بالانتصار تجوب أزقة البلدة رافعة بيارقها الحمر، يكون بين المتظاهرين عاملان يسيران جنباً الى جنب: كادكين والد الجندي القتيل، ومولر العامل الألماني الذي كان اسير حرب في البداية. > لقد اعتبر «اوكرايينا» على الدوام، اهم فيلم حققه بوريس بارنت. وقال النقاد دائماً ان هذا الفيلم كان اشبه ما يكون بمخرجه: بسيط وحزين مع طلعات مرح بين الحين والآخر. لكنه في الوقت نفسه معقد. ومن الواضح ان ما جذب بارنت الى هذا الموضوع الذي شاركه في كتابة السيناريو له قسطنطين فين، عن رواية لهذا الأخير، لم يكن الموضوع بل الأجواء: الأجواء التي تحيط بحياة هي من الجمود الى درجة ان الأحصنة نفسها، في البلدة لا تكف عن التثاؤب. إنها حياة يومية قاتلة سخيفة لا جديد فيها وليس فيها ما يفاجئ او يدهش. ومن هذا، من خلال هذا المناخ، عرف بارنت، عبر هذا الفيلم المتقشف والمتواضع، كيف يقدم صرخة انسانية ودعوة الى التآخي بين البشر، في ما وراء حدود الديانات والأعراق والأفكار والمذاهب. ولم يكن صدفة ان تقول واحدة من الشخصيات لأخرى ذات لحظة من لحظات الفيلم: «انظر الى هؤلاء الناس من حولك. انهم جميعاً بشر، يشبهونك في كل شيء. بشر ولدوا سواسية، لكن البيئة التي غذتهم وربّتهم وترعرعوا في احضانها هي التي تجعلهم إما عظماء أو جديرين بالاحتقار. والحال ان هذا كله هو الذي جعل «اوكرايينا» يشبَّه بلوحات معلمي الرسم الهولنديين في عصر النهضة، كما بشعر هايني، الذي يضج انسانية وعاطفة تأتي هنا ممزوجة بقدر ما من الجنون. وإضافة الى هذا، حين عرض آلان رينيه بعد عشرين عاماً وأكثر فيلمه «هيروشيما... يا حبي» رأى كثر تشابهاً كبيراً بين الفيلمين من ناحية النزعة الإنسانية التي تجمع بين أعداء الأمس لمجرد انهم بشر وتكشف كم انهم قادرون على ان يكونوا إخوة. «اوكرايينا» كما حققه بوريس بارنت كان، اذاً، صرخة للسلام والأخوة بين البشر، صحيح انها لم تكن زاعقة في هذا المجال، لكنها كانت فاعلة بقوة، حتى وإن كان الفيلم عجز - بالطبع - عن ان يغير كثيراً من حدة الشوفينية التي كانت مستشرية في بلاد ستالين في ذلك الحين، او ان يبدو ذا دور في وقف حرب كانت آتية لا محالة، وتحديداً مع الألمان انفسهم. > وبوريس بارنت كان في الأصل ملاكماً وممثلاً، عمل في افلام استاذه كولوشوف. وهو كان العام 1927 في الخامسة والعشرين من عمره حين حقق الفيلم الذي أطلقه، «الصبية ذات القبعة من كرتون» الذي سخر فيه من البورجوازية الصغيرة، كما اشتهرت له، اضافة الى «اوكرايينا» افلام مثل «عند شاطئ البحر الأزرق» (1936) الذي بدا أشبه بقصيدة تناصر حق المرأة في الحب والعمل والحياة، و «المهرج والمصارع» الذي حققه في العام 1958، قبل وفاته في العام 1965، بسبع سنوات، وكان فيلماً أثار إعجاب جان - لوك غودار، وغيره من السينمائيين والنقاد الفرنسيين، ما دفع الى اعادة اكتشاف افلام بارنت القديمة ومنها «اوكرايينا» هذا.   alariss@alhayat.com