شهدت مدينة شرم الشيخ فعاليات المؤتمر الأول للشباب تحت عنوان "أبدع.. انطلق"، برعاية الرئيس عبد الفتاح السيسي، وبحضور رئيس الوزراء، والنخب السياسية العامة والبارزة، وقد غاب عن طاولة المؤتمر مناقشة أهم أزمة تواجه المواطن المصري، وهي أزمة الصحة في مصر التي بلغت الذروة مع اختفاء الألبان ونقص المحاليل وارتفاع أسعارها بشكل جنوني والنقص الحاد لأدوية كثيرة، على الرغم من ارتفاع أسعارها أخيراً بشكل عشوائي ومتخبط، ولأن هذا المشهد لا تجد له مثيلاً حتى في الدول القريبة التي تعاني ويلات الحرب مثل سوريا، والتي على الرغم من ظروف القصف وارتفاع الأسعار استمرت بنيتها اللوجيستية والطبية صامدة فكان لزاماً أن يكون ملف الصحة في مصر حاضراً في المؤتمر، وأن يناقش من كافة جوانبه كما نوقش ملف التعليم سواء بسواء. إن التفرد المصري في مواجهة أزمات الصحة بسلبية وتجاهل لم يكن وليد اليوم، فإنشاء أول وزارة للصحة في مصر في يناير عام 1936 على سبيل المثال لم يكن الداعي له مواجهة الأوبئة التي تعصف بالمصريين الفقراء كالكوليرا والملاريا والجرب، بل كان الباعث لإنشائها مشهداً ساخراً يدعو للأسى رواه حسن باشا يوسف، رئيس الديوان الملكي السابق، فبينما كان الملك فؤاد على فراش المرض وقد أصابته غيبوبة سكر أفاق منها، وإلى جواره طبيبه الخاص محمد باشا شاهين. فقال له: أنا ممنون لك يا سعادة الوزير، ولأن أحلام الملوك أوامر في بلادنا فهذيانهم في أوقات الغيبوبة مرسوم ملكي واجب النفاذ، فاضطر علي باشا ماهر، رئيس الوزراء، إلى سرعة استنساخ وزارة للصحة، من أشلاء متناثرة لإدارات حكومية خاصة بالصحة من هنا وهناك، وإسنادها لطبيب الملك، وهكذا نشأت أول وزارة للصحة في مصر مسخاً مشوهاً، وبقيت حتى يومنا هذا على نفس المنوال بلا سياسة واضحة، فنجد مستشفيات جامعية تتبع التعليم العالي، ومستشفيات تأمين صحي مستقلة، ومستشفيات أخرى تابعة لوزارة الصحة، دون أي كيان مؤسسي واحد يجمعها، ويحقق للمواطن المصري خدمة صحية حقيقية ومتكاملة. كما أن لدينا عقيدة في مصر أتعجب من كونها سمة سائدة أننا ننفق على المباني والمنشآت والمكاتب الملايين بينما حينما يتعلق الأمر بحقوق المريض في وجود أدوية وأجهزة نتعلل بنقص الإمكانيات المادية وهو جوهر الخدمة الطبية. وما بين عامَي 1936 و2016 بقي مشهد المريض المصري البائس الذي يأتي مبكراً ثم يجوب أرجاء المستشفى تائهاً دون أن يجد أحداً يرشده، وقد يمضي الوقت به دون أن يعثر على أحد يساعده، وحينما يعثر المريض على مبتغاه فعليه أن يقف في طابور طويل عريض انتظاراً للطبيب، الذي ما أن يأتي حتى يسرع في كتابة روشتاته في مشهد روتيني دون أن يفحص أياً من هؤلاء المرضى المغلوب على أمرهم، وفي أقل من ساعة تجد طابور المرضى قد تلاشى، وأسرع الطبيب في الانصراف ليلحق بمستشفى آخر أو بعيادته الخاصه، ثم تبدأ مرحلة جديدة من معاناة المرضى، وهي صرف العلاج، فيعود المريض إلى طابور أكثر طولاً يقف عليه لساعات، ثم تكون المفاجأة أن دواءه غير موجود، بعد أن يصل إلى شباك الصرف بعد جهد جهيد، فيلعن حظه العاثر، ولكنه لن يكون أكثر عثرة من مريض لفظ أنفاسه وقد أتى المستشفى صائماً لعمل أشعه، فصعد درجات السلم لأكثر من خمس مرات بين أروقة البيروقراطية المصرية، فكان خالقه أحنَّ عليه من قطاع الصحة في مصر. والناظر إلى الحمامات شديدة القذارة في المستشفيات المصرية لنقص التجهيزات وعدم وجود مياه بالتأكيد سيعلم أن انتشار العدوى بين المرضى خيار حتمي للموت لا يقل ضراوة عن خيارات متعددة للموت تحفل بها مستشفياتنا المصرية. إن النهوض بهذه البلاد لن يتحقق إلا حينما يعاد النظر في سياسة الصحة في مصر، فالإنسان المصري يستحق أن تحترم آدميته، وأن يجد خدمة صحية تتفق مع المعايير العالمية في الجودة، والمشروعات القومية لا تبنى بمواطن مريض أو هزيل. إن نظام التأمين الصحي الشامل الذي تعتزم الدولة اعتماده هو فرصة حقيقية لبناء هيكل تنظيمي ومؤسسي لقطاع الصحة في مصر، وأن يكون معيار انضمام أي مستشفى بمصر للتأمين الصحي هو تطبيق معايير الجودة الطبية الشاملة في الخدمة الصحية وإجراءات السلامة، وأن تكون هذه المعايير نفسها هي شريطة منح أي ترخيص لمؤسسة صحية بمصر، فضلاً عن أهمية الربط الإلكتروني بين المؤسسات التي سوف تتبع منظومة التأمين الصحي المزمع إنشاؤها للرحمة بالمرضى والتيسير عليهم، كما أن منصب وزير الصحة، وهو المسؤول عن المنظومة الصحية في مصر، لا بد أن يتحرر من الاقتصار على فئة معينة داخل الفريق الطبي حتى يتسع ليشمل كل التخصصات من داخل الحقل الطبي وخارجه، بما يسهم في التطوير دون محاباة. آن الأوان لتغيير نظام منح تراخيص مزاولة المهنة للتخصصات الطبية ليكون منحها بناء على امتحان، ويتم تجديدها كل ثلاث سنوات بامتحان جديد أو بنظام الساعات المعتمدة لضمان إلمام المتقدم للخدمة الصحية بكل جديد في مجال تخصصه، كما أن بلادنا تحتاج إلى خطوات حقيقية لتفعيل آليات التدخل وإدارة الأزمات من خلال تفكير مؤسسي يبحث الأزمة دون مواربة، ويعتمد الإنذار المبكر والرصد ثم المكاشفة والحوار المجتمعي، ومحاولة إيجاد الحلول لهذه الأزمات بما يحول دون تكرارها مستقبلاً. ملحوظة: التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.