كان أول ظهور لأدلجة الخلاف مع الآخر وفقا لرؤية إيمانية لها تبعاتها التشريعية، على عهد الإمام علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - حين أراد أصحابه إصدار حكم منه بالقضاء على المخالفين له من الخوارج الذين لم يقفوا عند حد مخالفته وإنما زاد عتوهم بلعنهم له في أحاديثهم البينية. لكنه أبى ذلك، ولم يرضخ لكل حججهم التي استشهدوا بها، بل قام بالتخفيف من الأمر، واعتبر ما يقوم به مخالفوه من الخوارج رأيا لا يستوجب أي عقاب بدني، طالما وأنهم لم يعتدوا على مخالفيهم. وأجمل ما في الرواية أنه دافع عن إيمانهم، حين قال ردا على من اتهمهم بالكفر: أنهم من الكفر فروا، وأن لعنهم إياها لا يستوجب القتل. كان ذلك موقف أبي الحسنين، أخي رسول الله، وزوج بضعته السيدة فاطمة الزهراء، وباب مدينة العلم كما جاء في الحديث الصحيح؛ أراد به أن يؤسس لقاعدة مهمة في أدبيات الخلاف مع الآخر، تقوم على تحري العدل والمصداقية والبعد عن الانتصار للنفس، الذي حذر الله منه في كتابه المحكم. أراد الإمام علي أن يقول لنا إن هناك فرقا بين خلاف التضاد وخلاف التنوع، فالأول ينطلق من قاعدة الحق والباطل، وبالتالي ينبني عليه إيمان وكفر، أما الثاني فيرتكز على قاعدة الخطأ والصواب، وبالتالي ينبني عليه زيادة أجر أو نقصه. وإشكالنا التاريخي منذ نهاية عهد الإمام علي حتى وقتنا المعاصر، كامن في النظر إلى كل الخلافات من منظور التضاد وليس التنوُّع، وهو ما يُنتج هذا الكم الغزير من الإقصاء وممارسة العنف بكل أشكاله إزاء المخالف. لقد جاء موقف الإمام علي -وهو أحد أبرز الرموز الدينية في موروثنا- متوافقا مع نهج النبي محمد - صلى الله عليه وآله وسلم - الذي ينطلق من مشروعية ربانية محكمة، وبالرغم من ذلك، إلا أن النسق الذهني لمجتمعاتنا المسلمة قد انطلقت في خلافها مع الآخر أيا كان، من منظور خلاف التضاد وليس التنوع، وبخاصة تيارات الإسلام السياسي والمتشددة في مختلف المذاهب المسلمة، وكان من جراء ذلك أن عاش المسلمون وحتى اليوم أزمة وجودية مع أنفسهم أولا، ومع المختلف معهم ثانيا وثالثا. أمام هذا المأزق، وتلك المفاصلة الحادة، وللحد من حالة الشتات والتشظي التي وصل لهيبها إلى داخل بيوتنا، بقتل الابن أبويه، لكونه قد انطلق في خلافه معهما من منظور خلاف التضاد، القائم على الحق والباطل، بات واجبا التأسيس لمفهوم خلاف التنوع، ودحض كل التيارات المذهبية المتشددة، التي تستهدف إثارة الفتن بمنطقها، وقتل الناس برأيها. ورحم الله الإمام أبي حنيفة حين قال: رأيي صواب يحتمل الخطأ، ورأي غيري خطأ يحتمل الصواب. zash113@gmail.com