أفريقيا قارة ضخمة بكل المقاييس؛ بجغرافيتها المترامية الأطراف، بساكنتها المتنوعة الأعراق واللغات والديانات والثقافات، بمناجمها ومعادنها وثرواتها الطبيعية الهائلة، بموقعها الجيو/إستراتيجي الذي يجعل منها معبرا لتيارات السلع والرساميل والخدمات، وبسوقها الداخلي الذي تقدره المعطيات الإحصائية بأكثر من ملياري نسمة في أفق العام 2050. ولذلك، فليس من المتعذر حقا فهم خلفيات التسابق الدولي على أفريقيا، إن لم يكن لضمان موطئ قدم بنقط تركز وتمركز هذه الثروات، فعلى الأقل لفتح الطريق أمام الشركات التجارية الكبرى لتحصيل حصص معتبرة بسوق داخلي يتزايد بوتيرة متسارعة، نتيجة التمدن الكثيف الذي تعرفه القارة، وانبعاث طبقات متوسطة متماهية قلبا وقالبا مع نموذج الاستهلاك الغربي. هذا الفضاء الجغرافي والاقتصادي والاجتماعي والبشري الواسع والواعد لم يكن ليترك بعض البلدان "الصاعدة"، وضمنها المغرب، في وضعية حياد أو لامبالاة، بل دفعها إلى بناء توجهات دبلوماسية واقتصادية وسياسية باستحضار هذا الواقع وبالارتكاز على معطياته. (1) ويبدو لنا أن الزيارات المكثفة للملك محمد السادس للعديد من بلدان أفريقيا جنوب الصحراء، إنما تنطلق من هذا التصور الذي يحاول -وبالتدريج- الابتعاد نسبيا عن ممارسات البلدان الغربية ذات الإرث الاستعماري القريب، بجهة وضع لبنات أسس جديدة لتنمية متبادلة تنهل من التعاون جنوب/جنوب، وتكون متمحورة حول المشاريع الاقتصادية المدرة للثروة، لكن بنكهة إنسانية واجتماعية وثقافية متميزة. " الفضاء الأفريقي الجغرافي والاقتصادي والاجتماعي والبشري الواسع والواعد لم يكن ليترك بعض البلدان "الصاعدة"، وضمنها المغرب، في وضعية حياد أو لامبالاة، بل دفعها إلى بناء توجهات دبلوماسية واقتصادية وسياسية باستحضار هذا الواقع وبالارتكاز على معطياته " ولذلك أيضا، فإن الطموح، بل قل النزوع المتزايد للشركات المغربية (في المناجم والزراعة والبنوك والاتصالات والتأمينات والأشغال العمومية والنقل والطاقة وغيرها) للاستثمار بقوة في البلدان الأفريقية جنوب الصحراء (غربا وشرقا ووسطا)، إنما يجد تفسيره ومسوغه ومحفزه في تطلع المغرب إلى إعادة إحياء البعد الأفريقي الذي طالما "نغصت" عليه الحسابات السياسية، أو حالت دون تجذره التوازنات الإقليمية أو الحروب البينية، أو التحالفات والتحالفات المضادة المستحضرة لقضية الصحراء بهذا الشكل أو ذاك. بيد أن هذا الطموح المتزايد للمغرب في أفريقيا، يجب ألا يخفي حقيقة أن مستوى تبادلاته التجارية معها لا يتجاوز الـ 4 إلى 5 مليار دولار سنة، مما يضعه، بمنطقة المغرب العربي مثلا، ضمن المرتبة 48 في ترتيب الشركاء التجاريين لأفريقيا، بعد الجزائر (الرتبة 41) وتونس (الرتبة 38). ثم إنه بمقياس التوزيع الجغرافي للتيارات التجارية للمغرب مع الخارج، فإن أفريقيا تعتبر الحليف التجاري الإقليمي الرابع فقط، بما نسبته 6.5 بالمائة من حجم التجارة الخارجية العامة للمغرب، إذ تبقى أوروبا الحليف التجاري الأول بأكثر من 62 بالمائة من مجموع التبادلات، ثم آسيا بـ 19 بالمائة، ثم أميركا بـ 12 بالمائة. أما على مستوى بنية هذه المبادلات، فالملاحظ أنها لا تزال تمتح من طبيعة العلاقات التي كانت سائدة تقليديا بين أفريقيا ومستعمريها الغربيين. إذ يستورد المغرب من أفريقيا حوالي نصف حاجياته من الغاز وباقي المشتقات النفطية، ويصدر إليها سلعا صناعية أو نصف مصنعة، مكونة أساسا من "مصبرات" السمك والأسمدة الطبيعة والكيميائية وما شابه، وهي كلها مبادلات حصرا على دول فرنكفونية بعينها، حيث تمثل المبادلات التجارية بين المغرب من جهة، والسنغال وموريتانيا وغينيا وساحل العاج والغابون وغامبيا ومالي من جهة أخرى، حوالي ثلث صادرات المغرب لبلدان أفريقيا جنوب الصحراء. ومع أن حجم المبادلات التجارية قد عرف بعض النمو بالخمس سنوات الأخيرة، فإن وتيرة الاستثمارات المغربية ببلدان أفريقيا جنوب الصحراء بقيت دون الرهانات، إذ كانت نسبة نموها 13 مرة أقل من نسبة نمو المبادلات التجارية. (2) لا يبعد المغرب عن أوروبا إلا بحوالي 14 كيلومترا. معظم تعاملاته الاقتصادية والتجارية تتم مع دول أوروبا، فرنسا وإسبانيا على وجه التحديد، بل إن جزءا كبيرا من مهاجريه يقيمون بهذه الدول، ويحولون لبلدهم الأصل مداخيل معتبرة من العملة الصعبة. ومع ذلك، فإن المغرب لم يتنكر يوما لهويته الأفريقية، بل اعتبر البعد الأفريقي عنصرا جوهريا من عناصر هويته العربية الإسلامية، مؤسسا وليس مكملا لها. " لا يبعد المغرب عن أوروبا إلا بحوالي 14 كيلومترا، ومعظم تعاملاته الاقتصادية والتجارية تتم مع دول أوروبا، فرنسا وإسبانيا على وجه التحديد، ومع ذلك، فإن المغرب لم يتنكر يوما لهويته الأفريقية، بل اعتبر البعد الأفريقي عنصرا جوهريا من عناصر هويته العربية الإسلامية " والمقصود بالهوية الأفريقية في هذا الباب إنما تلك الروابط الحضارية الضاربة في القدم، والتي تشد المغرب بقوة إلى قارة شاركته وتشارك معها المصير المشترك زمن السلم كما زمن الاستعمار وحروب التحرير. هي هوية مبنية على عناصر التاريخ والجغرافيا والعلاقات الإنسانية دون شك، لكنها مبنية في الآن ذاته، على قيم ثقافية واحدة وعلى علاقات روحية عميقة، إذ انتشر الإسلام بدول أفريقيا جنوب الصحراء وبلدان الساحل وشرق أفريقيا، انطلاقا من المغرب وعلى يد الحركات الدينية والزوايا الصوفية، والتي لها بأفريقيا أتباع كثر. وعلى الرغم من أن المغرب يعتبر ضمن الآباء المؤسسين للمنظمات الأفريقية الأولى (منظمات ما بعد الاستقلالات السياسية لبلدان القارة)، لا سيما منظمة الوحدة الأفريقية، فإن اعتراف هذه الأخيرة، في العام 1982، بجبهة البوليساريو، قد أسهم وإلى حد كبير في تسميم العلاقات المغربية الأفريقية، إذ بعد انسحاب المغرب من المنظمة إياها في العام 1984، لم تعد الدبلوماسية المغربية تشتغل إلا عبر "أطراف صديقة"، تارة لثني المعترفين بذات الجبهة إلى سحب اعترافهم بها، وتارات أخرى إلى الاعتراف بمغربية الصحراء، أو على الأقل "رفع اليد" عن الملف وترك طرفي النزاع يحتكمان إلى المنظمات الدولية المختصة، مع العمل بموازاة ذلك على تجسيد روح الوحدة والتعاون التي سنها مؤسسو المنظمة إياها، والتي تحولت إلى منظمة الاتحاد الأفريقي فيما بعد. صحيح أن جولات الملك محمد السادس الأفريقية تراهن على استقطاب دول وشعوب لصالح قضيته، لكنها تعتمد بغرض بلوغ ذلك مقاربة عملية، اقتصادية وتجارية ومالية، وليس فقط دبلوماسية. هو تحول في المقاربة، لكنه تحول في الأدوات والوسائل أيضا. والدليل على ذلك أن الملك لم يعد يصطحب في جولاته الأفريقية "وزراء السيادة"، أو أفراد الحاشية السياسية المقربين، بل بات محاطا في معظم جولاته، بالوزراء ذوي الاختصاص المباشر، والمرتبط بطبيعة الزيارة، وكذا برجال الأعمال الفعليين، سواء من القطاعات الإنتاجية العمومية أو من القطاع الخاص. وهو ما يظهر بقوة في مشاريع التعاون القطاعي والبنى التحتية والنقل والاتصالات وقطاع المصارف والتأمينات وقطاع الصناعات الخفيفة وما سوى ذلك. وقد حدد الملك محمد السادس مفاصل هذه المقاربة الجديدة بقوله: إن "أفريقيا يجب أن تضع الثقة في أفريقيا؛ إنها بحاجة أقل للمعونة، وتحتاج إلى المزيد من الشراكات ذات الفائدة المتبادلة، إنها ليست بحاجة إلى المساعدة الإنسانية، بل إلى مشاريع في التنمية الاقتصادية والاجتماعية". ولعل إنشاء المغرب لمحطة "الدار البيضاء فاينانس سيتي"، والتي من مهامها استقطاب الاستثمارات العالمية، وتزويدها بالبنية التحتية وبالمعطيات الضافية التي تمكنها من تعظيم أرباحها بأفريقيا جنوب الصحراء، إنما هو خير دليل على ذات التوجه. المغرب هنا إنما يوظف موقعه الجيو/إستراتيجي المتميز ليكون نقطة عبور للاستثمارات الأوروبية والأميركية والخليجية، المتطلعة لتمويل مشاريع استثمارية بهذه الجهة من العالم. " صحيح أن جولات الملك محمد السادس الأفريقية تراهن على استقطاب دول وشعوب لصالح قضيته، لكنها تعتمد بغرض بلوغ ذلك مقاربة عملية، اقتصادية وتجارية ومالية، وليس فقط دبلوماسية. هو تحول في المقاربة، لكنه تحول في الأدوات والوسائل أيضا " إننا سقنا نموذج هذه المحطة للتدليل على التوجه الجديد الذي بدا المغرب يمتطي ناصيته والذي مفاده العمل على تكريس تعاون "جديد"، يندرج ضمن العلاقات شمال/جنوب وجنوب/جنوب، يستفيد منها المغرب بالتأكيد، ويفيد منها أيضا دول أفريقيا جنوب الصحراء، على شكل نقل للتكنولوجيا أو للخبرات، أو للأنماط الجديدة في تدبير المشاريع وتسيير الموارد اللوجيستية والبشرية. وقد آتى هذا التعاون الثلاثي أكله؛ إذ استفادت العديد من دول أفريقيا جنوب الصحراء من دعم مالي مهم (متأت من أوروبا واليابان والولايات المتحدة الأميركية) لإنجاز مشاريع تنموية ذات طبيعة اقتصادية واجتماعية، موجهة بالخصوص لقطاعات التربية والتعليم، والصحة والفلاحة والنقل والري العصري، ومد شبكات الماء الصالح للشرب، والكهربة القروية والحضرية، وتقوية القدرات الوظيفية والعملياتية وغيرها. بل إن المغرب قد نجح في دفع شركات متعددة الجنسيات لفتح مكاتب جهوية لها بالمغرب (مايكروسوفت، هاوليت باكارد، أي. بي. إم، سيسكو.. الخ) وتصميم سلع موجهة لأفريقيا جنوب الصحراء خصيصا. (3) لا يسمح المجال هنا للحديث عن محددات هذا التوجه الجديد للمغرب إزاء أفريقيا؛ لكنه بوسعنا القول بأن المحددات الكبرى في ذلك هي محددات اقتصادية وتجارية خالصة، تذكيها طبيعة التوزيع العالمي الجديد للعمل أكثر ما هي اختيارات مستقلة. هل يا ترى بمقدور المغرب أن يلج دولا وجهات بأفريقيا هي حكر على فرنسا مثلا؟ هل كان للمغرب أن يتحرك بدبلوماسيته وفاعليه الاقتصاديين والماليين بهذه الجهة من أفريقيا، إن لم يكن قد حصل على الضوء الأخضر بهذا المقابل، المادي أو الرمزي، أو ذاك؟ لا نظن ذلك حقا. ثم إن للتوجه إياه محدد إستراتيجي آخر، والذي لا يتمثل فقط في محاولة المغرب تجاوز واقع الأزمة الاقتصادية التي يعرفها شركاؤه التقليديون (بالاتحاد الأوروبي تحديدا) وانحسار الطلب التقليدي الذي كان المحرك الأساس للعلاقات بين طرفي المتوسط، بل أيضا في طموح المغرب إلى تنويع شركائه، لا سيما بجهة من العالم لا تزال أرضا خصبة لشتى أشكال الاستثمار. بيد أن ثمة محدد ناظم لكل هذه التوجهات، بل ولربما هو المحدد الجوهري لها في الزمان والمكان. ويكمن في عمل المغرب على توسيع رقعة الدول الأفريقية المتبنية بهذا الشكل أو ذاك، لقضيته الوطنية، قضية الصحراء. ولعل عزم المغرب العودة من جديد للمنظمة الأفريقية دليل على أن المغرب لم يعد مستعدا لإدارة الظهر لأفريقيا. إن خطاب الملك من دكار لم يكن موجها للمغاربة، بل كان موجها لأفريقيا، كل بلدان أفريقيا، الصديقة منها كما الغريمة على حد سواء.