منذ ثلاث سنوات، ضرب الفلبين إعصار "هايان" وألحق بها دمارًا واسعًا. لكن في أحد أركان البلاد، اكتشف السكان طريقة مذهلة لتسترد البلاد عافيتها. ولم تكد الرياح العاتية، التي بلغت سرعتها 195 ميلًا في الساعة، تضرب الساحل حتى اقتلعت النخل وحطمت المباني وأطاحت بالسيارات وكدستها بعضها فوق بعض. وعلى مدار 48 ساعة، دمر الإعصار ما يزيد عن مليون منزل، وحصد أرواح أكثر من 600 ألف شخص. وفي أعقاب الإعصار، نقل صحفيون صور الدمار الشامل الذي خلفه الإعصار، حيث غطت الشظايا الناجمة عن تحطم الأخشاب والزجاج الأرض، وامتلأت الشواطئ البكر بالأنقاض. وانتشرت صور لأطفال يسيرون وسط الحطام، ولافتات كتب عليها المتضررون "ساعدونا" و"نحتاج الماء والغذاء والمأوى". أينما وليت وجهك، ستجد خسائر في الأرواح ودمار لحق بسُبل الرزق. وكانت وطأة الإعصار شديدة على جزيرة مالاباسكوا، وهي جزيرة صغيرة ومنتجع سياحي، كونها تقع في مسار الإعصار هايان، حيث سويت المباني بالأرض، وتحطمت مراكب الصيد تمامًا، وقطعت خطوط الطاقة الكهربائية، وكل وسائل الاتصال. وبدا للكثيرين أن هذه الجزيرة، التي كانت يومًا ما وجهة للسائحين، لم يعد لها وجود. لكن ظل هناك بصيص من الأمل، فجزيرة مالاباسكوا بقي لديها أسماك القرش الدرّاس. وأسماك القرش الدراس هي كائنات بحرية طويلة الذيل، تستعين بذيولها كسياط لتصعق الأسماك حتى يسهل اصطيادها. ويوجد ثلاثة أنواع على الأقل من فصيلة أسماك القرش الدراس، وهي القرش الدراس البحري، الذي يوجد في جزيرة مالاباسكوا، والقرش الدراس الجاحظ، الذي يعيش في المحيطات المدارية في العالم، والقرش الدراس العادي، الذي يفضل المياه الأكثر برودة. ويتميز القرش الدراس البحري الذي يعيش في الفلبين بوجود بقع غامقة اللون على الجلد في الجزء السفلي من الزعانف الصدرية. كما إنه أصغر أنواع القرش الدراس، إذ لا يتعدى طوله نحو ثلاثة أمتار، عندما يكون مكتمل النمو. Image copyright Steve De Neef Image caption أسماك القرش الدراس هي كائنات طويلة الذيل، تستعين بذيولها كسياط لتصعق سائر الأسماك حتى يسهل اصطيادها وتعد الأنواع الثلاثة من القرش الدراس كثيرة الارتحال، وتعيش في أعالي البحار وفي المياه الساحلية. كما أنها بطيئة التكاثر، بحسب القائمة الحمراء للأنواع المهددة التي أصدرها الاتحاد الدولي للحفاظ على الطبيعة ومواردها. فلا تلد سمكة القرش الدراس البحرية إلا صغيرين فقط في العام، ويتأخر النضوج الجنسي لديها حتى سن الثامنة. تتجه كل يوم أسماك القرش الدراس إلى موقع الغطس الشهير، موناد شول، وهو عبارة عن جزيرة غمرتها المياه قبالة ساحل مالاباسكوا. ويقول أليساندرو بونزو، المدير التنفيذي لمشروع الفقاريات البحرية الكبيرة بالفلبين، إنها اختارت هذه البقعة لسبب وجيه. وأردف قائلًا: "يلتصق على أجسام أسماك القرش الدراس، كشأن سائر الأنواع البرية، عدد من الطفيليات. وتقترب بعض أسماك القرش في الصباح الباكر من الساحل للاستفادة من خدمات التنظيف التي تقدمها الأسماك الصغيرة، إذ تزيل الجلد الزائد وتخلصها من الطفيليات في محطات التنظيف المختلفة حول موناد شول." توجد "محطات التنظيف" بمحاذاة الحافة الصخرية للجبل البحري. ويقول بونزو: "تقترب أسماك القرش من المنطقة وتبقى في مكانها لتدع الأسماك الصغيرة تزيل الطفيليات من على أجسامها". كما أن جزيرة موناد شول محاطة بالمياه العميقة المليئة بأسماك السردين، وهذا يعني أن أسماك القرش يمكنها أيضًا أن تصطاد الأسماك وتحصل على غذائها. وقد اجتذبت هذه الظاهرة الطبيعية العجيبة الغواصين منذ سنة 1999. فيترقب الغواصون كل صباح على حافة الجبل البحري على عمق 20 مترًا من سطح الماء مجيء أسماك القرش. وتقول أنّا أوبوسا، إحدى مؤسسي جماعة "انقذوا بحار الفلبين": "لا تنطوي سياحة مراقبة أسماك القرش الدراس على استخدام الأقفاص ولا الطعوم، فلم تأت أسماك القرش إلى هنا إلا لتنظف نفسها على الشعاب المرجانية كل صباح". وتقول أوبوسا إن أسماك القرش الدراس لعبت دورًا أساسيًا في مساعدة جزيرة مالاباسكوا على التعافي بعد إعصار هايان. وتابعت: "أسهمت سياحة مراقبة أسماك القرش الدراس في إعادة بناء الجزيرة لسببين، أولًا، لأن السياح، سواء في الماضي أو في الحاضر، يعشقون جزيرة مالاباسكوا وسكانها، ولهذا مد لنا كثيرون أيادي العون. وثانيًا، لأن أسماك القرش لم تتأثر بالعاصفة، فقد استعادت سياحة مراقبة أسماك القرش الدراس نشاطها في غضون أسبوعين، وهذا جلب دخلًا للجزيرة". يقول ستيف دي نيف، المصور الصحفي، الذي عاش في الفلبين وجاب البلاد طولًا وعرضًا في أعقاب الإعصار لتوثيق الدمار الذي حل بالبلاد: "بعد يومين من الإعصار، استقل بعض السكان المحليين أحد المراكب القليلة المتبقية لإلقاء نظرة على جزيرة موناد شول وتقييم حجم الضرر الذي لحق بها". Image copyright Steve De Neef Image caption كانت وطأة الإعصار شديدة على جزيرة مالاباسكوا، وهي جزيرة صغيرة ومنتجع سياحي، كونها تقع في مسار الإعصار هايان وتابع نيف: "لحسن الحظ لم يخلف الإعصار ضررا واسع النطاق بجزيرة موناد شول، وكانت أسماك القرش موجودة حول المكان". وبعد أسبوعين، عادت أنشطة سياحة مراقبة أسماك القرش إلى سابق عهدها. وعلى الرغم من أن الغواصين في البداية كانوا يلغون رحلاتهم إلى الجزيرة، إلا إنهم عادوا مرة أخرى إلى المكان بعد ذيوع خبر استئناف أنشطة الغطس في موناد شول. وبفضل السياحة البيئية، عادت المياه إلى مجاريها في جزيرة مالاباسكوا. وتقول أوبوسا: "عندما عدت إلى مالاباسكوا، بعد بضعة أيام من إعصار هايان، لم أعرفها، وكأن وحشًا عملاقًا قد عاث فيها فسادًا. وأتذكر أنني ضللت طريقي مرات عدة لأن معالم المكان، مثل الأكواخ الصغيرة أو المباني، لم يعد لها وجود". ولكن بعد ثلاث سنوات، لم يعد هناك أثر للدمار. وتقول أوبوسا: "تكاد تكون الجزيرة عادت إلى ما كانت عليه، فقد أعيد بناء المنازل والمنتجعات ومراكز الغطس. وذكر بعض السكان المحليين أن بيوتهم باتت أقوى الآن بسبب المعونات التي تلقوها." كما يدرك السكان الدور المحوري الذي تلعبة سياحة مراقبة أسماك القرش في تأمين سبل المعيشة. ويقول دينيس بيتيت، مدرب غطس في مالاباسكوا، وعضو في مشروع "بروجكت شاركلينك"، الذي يوفر التدريب والمعلومات عن مزايا سياحة حفظ أسماك القرش: "إن القرش الدرّاس يمثل مصدرًا للرزق لي ولأغلب السكان المحليين على الجزيرة". وأضاف بيتيت: "بعض مديري خدمات الغطس مع أسماك القرش كانوا صيادين في بداية حياتهم، كما أن الناس هنا سعداء لأن أطفالهم سيصبحون مدربي غطس بعد أن ينهوا دراستهم". تقول أوبوسا: "العجيب أن ترى مدى تعلق حياة الناس في الجزيرة بأسماك القرش الدراس، فأينما تسير تجد أسماك القرش في اللوحات والجداريات واللافتات على كل مراكز الغطس". يصنع بريان بارسيناس، صاحب متجر لبيع الهدايا التذكارية، تماثيل أسماك القرش من الخشب ليبيعها للسائحين. ويقول بارسيناس: "تتيح (أسماك القرش) في مالاباسكوا الكثير من فرص العمل للسكان، وأنا أجني من ورائها الكثير من الأرباح، إذ يأتي السائحون، بعد الغطس، ليشتروا تماثيل أسماك القرش الخشبية". وقد اتخذت حياة ريناتو رويان، الصياد السابق، منحى جديدًا. فبعد أن كان يصطاد أسماك القرش لتوفير الزعانف لسوق زعانف أسماك القرش الضخم في أسيا حتى وقت قريب، أصبح الآن يعمل على حمايتها. ويقول رويان: "لم تكن أسماك القرش تمثل أي قيمة لنا قبل الإعصار، وكنا نسعد عندما نصطاد قرشًا، حتى إنني كنت قد أصطاد 5 إلى 10 أسماك قرش في ليلة واحدة". Image copyright Steve De Neef Image caption يقبل السائحون في الجزيرة على شراء الهدايا التذكارية كالتماثيل الخشبية لأسماك القرش وقد توقف رويان عن اصطيادها، واستطرد قائلًا: "وبمجرد أن أدركت مدى أهمية أسماك القرش الدراس في حماية الجزيرة، أصبحت مرشد غطس. والآن إذا اختفت أسماك القرش، لن يعد لدي مصدر للدخل. فكلما زادت أسماك القرش، زاد الغطاسون، وبالتالي زاد الدخل". ولكن مع الأسف، على الرغم من حماسة سكان مالاباسكوا، إلا أن سياحة مراقبة القرش الدراس مازالت تواجه صعوبات بالغة. تقول أوبوسا: "تظهر أسماك قرش الدراس في مناطق أخرى من الفلبين، ولكن الصيد غير القانوني والتجاري يفوت فرص (السياحة) على هذه المناطق". وبحسب دراسة نشرت سنة 2006 في دورية "كونزرفيشن بيولوجي"، تمثل زعانف القرش الدراس نحو 2.3 في المئة من الزعانف التي تدخل هونغ كونغ، وتباع فيها سنويًا، وتمثل هونغ كونغ أكبر سوق لزعانف أسماك القرش، وهذا يفسر قتل ملايين أسماك القرش الدراس سنويًا. ويقول بيتيت: "يمثل (الصيد غير القانوني) تهديدًا دائمًا لأسماك القرش عند وجود مراكب للصيد التجاري في المنطقة. ولدينا مجموعة من الرجال لا يغفلون لحظة عن حراسة موند شول، لإبعاد مراكب الصيد عن المنطقة". ويقول ليوك وارويك، مدير حفظ أسماك القرش بمشروع "صناديق بيو الخيرية": "تتناقص أعداد أسماك القرش حول العالم، إذ يقتل منها 100 سمكة قرش سنويًا. ولأن القرش الدراس لا ينضج ولا تستطيع أنثاه الحمل إلا بعد بلوغ 10 سنوات، ولا يضع إلا صغيرًا واحدًا أو صغيرين كل عامين، فضلًا عما تواجهة هذه الأنواع من تناقص، فإن أسماك القرش عرضة لخطر الانقراض". ويرى بيتيت أن التأثير الإيجابي لسياحة مراقبة أسماك القرش الدراس يمتد للفلبين بأكلمها. ويقول بيتيت إن مانيلًا لا تبعد كثيرًا عن جزيرة مالاباسكوا، وتابع: "إذا حضر الناس إلى هنا، سيرغبون في زيارة أماكن أخرى أيضًا، وبهذا ستنتفع أيضًا سائر جزر الفلبين". ستظل أسماك القرش الدراس تساعد الفلبين على التعافي من آثار إعصار هايان، بإدخال السرور والإثارة على الغطاسين يومًا بعد يوم، شريطة الحفاظ عليها على قيد الحياة ليستمتع السائحون بمشاهدتها. يمكنك قراءة الموضوع الأصلي على موقع BBC Earth .