عبدالله السناوي أمام تحديات وجودية في الإقليم تتصاعد مخاوفها، حيث كتل النيران تنبئ بسيناريوهات تفكيك وتقسيم، فإن سلامة الوضع الداخلي من أهم ضرورات تجنب أية حرائق محتملة، أو أخطار ممكنة. بأي سيناريو متوقع بعد حسم الحرب على داعش، وهذه مسألة وقت، يصعب الرهان على عودة الأمور إلى سابق عهدها، فالقوى الكبرى لها مصالح واستراتيجيات، وليست هيئات خيرية تجيء بالمال والسلاح وتعقد التحالفات قبل أن تذهب بعد اطمئنانها على دحر تمركزات الإرهاب في المشرق العربي. خرائط التقسيم في الأدراج، وكلها منشورة ومعلنة، تنتظر الصفقات الأخيرة، وفق حقائق السلاح على الأرض. الفيدراليات مرجحة، وإنشاء دول جديدة في الإقليم غير مستبعد، والانخراط في حروب عرقية ومذهبية تمتد لأزمان طويلة شبه مؤكد. لا يملك بلد عربي واحد، لم تطله كتل النيران على النحو الذي جرى في سوريا والعراق وليبيا واليمن، أن يطمئن على سلامته، فعندما تبدأ لعبة التفكيك لا يعرف أحد أين ولا كيف تتوقف. بحقائق الجغرافيا السياسية فإن أي تقسيم محتمل يضرب مصر كزلزال في أمنها القومي، ويضع سيناء في مرمى النيران بأكثر مما هو جارٍ حالياً من التمركزات الإرهابية. أرجو أن ننتبه إلى مغزى إعلان مسعود البرزاني رئيس إقليم كردستان العراق أن ما حررته البيشمركة من داعش في نينوى هو من أراضيها، فالتصريح رغم نفيه لاحقاً ليس عابراً بقدر ما هو تعبير عن سياسة تعرف مقاصدها عندما تسكت المدافع. في مثل هذا النوع من الحروب لا توجد أهمية حقيقية لأية تفاهمات سابقة. بقدر ما يصل السلاح تكتسب الجوائز. هذه إشارة خطرة لسيناريوهات مقبلة تتجاوز إنشاء دولة كردية إلى انتزاع أراضٍ عربية، وتغيير هويتها وضمها لمشروع دولة جديدة في الإقليم. بنفس التوقيت تتوالى الإشارات التركية عن ارتفاع معدلات قلقها من مثل هذا المشروع، الذي يهدد بنية دولتها بالنظر إلى أقليتها الكردية الكبيرة، دون أن تتبدى في المقابل أية سياسة عربية متماسكة تدخل في الحسابات الأخيرة. لا يمكن تجاهل الدلالة الاستراتيجية لتوجه تركيا إلى بناء شراكة استراتيجية عسكرية واستخباراتية مع باكستان في هذا التوقيت، أو تأهب قواتها بالقرب من الموصل. مشكلة العالم العربي أنه ينتظر معجزة ما تنقذه مما قد يحدث، دون أن يتبنى سياسات ومبادرات تنفتح على الحقائق في الإقليم، تواجه حين تكون المواجهة لازمة، وتتفاهم حين يكون التفاهم ممكناً. مأساته أن الفجوات تتسع بين ما تبقى من أطراف رئيسية فيه دون أي تصور للحدود الفاصلة بين المشروع والممنوع. بكلام آخر فإن تعافي مصر شرط لازم لإفلات العالم العربي مما هو مقبل عليه من تفكيك وتقسيم وانهيارات فادحة يصل إليها بكتل نيرانه. تحت ضغط الكلفة الاجتماعية الباهظة للإصلاح الاقتصادي تجد مصر نفسها أمام سيناريوهات خطرة، قد تأخذ منها تماسكها الضروري في لحظة حرجة. وقد كان مثيراً الشكر الحكومي للمواطنين على تفهمهم للإجراءات الاقتصادية المؤلمة، وتجنب أية احتجاجات كبيرة على ارتفاعات أسعار السلع الرئيسية، وانخفاض القوة الشرائية للجنيه المصري إلى نحو النصف في فترة وجيزة. رغم أي أنين مسموع تحت ضغط الأزمات الاجتماعية، خشِيت فئات واسعة من أن تضرب الفوضى البلد، ويفقد استقراره وأمنه، دون أن يرى أمامه أفقاً جديداً مقنعاً. غير أنه لا يمكن الرهان طويلاً على ما يمكن أن نسميه التعقل العام، فلا بد أن تبادله السياسات نفس درجة التعقل، وأهمها الإنصات بعمق إلى الأنين الاجتماعي بدلاً من توجيه رسائل الشكر، وعدالة توزيع الأعباء بفرض ضرائب تصاعدية على الفئات الأكثر غنىً، وهو ما ينص عليه الدستور وتلتزمه دول غربية كبرى، فضلاً عن رفع مستويات الأداء العام، الذي تراجع بصورة منذرة في بلد عريق مثل مصر كما تبدَّى في شبه غياب الرقابة على الأسواق، وتفاقم أزمة المستلزمات الطبية، كأن أحداً لم يكن يتحسب لآثار تعويم العملة الوطنية على استيراد مثل هذه المستلزمات، التي تعني بالضبط مسألة حياة أو موت لعشرات الملايين. ما يحدث يبدو شبيها بكتل الجليد التي قد تذوب فجأة تحت ضغط الأزمات، فلا تجد مجرىً آمناً تندفع فيه. وقد كان العفو الرئاسي عن (82) من الشباب المحبوسين، أغلبهم طلاب، بأحكام نهائية وباتّة، خطوة رمزية في موضوعها ودالة بتوقيتها. من حيث رمزيتها فإنها تساعد على الاعتقاد بإمكانية رفع المظالم السياسية، ومصالحة الدولة على شبابها، بعد خفض حدة الاحتقانات، والاحتقانات بذاتها مؤشرات سلبية بأية نظرة إلى المستقبل. الإفراج عن سجين رأي واحد قيمة سياسية وأخلاقية تستحق الدعم والمساندة وطلب المضي قدماً لإفراجات تالية عن آخرين يصفهم الرئيس نفسه ب المظلومين، بينهم أعداد كبيرة من المحبوسين احتياطياً، دون أن يقدَّموا إلى أية محاكمة، رغم طول مدة الاحتجاز. بقدر رفع المظالم تخفت الاحتقانات، وهو ما تحتاجه مصر المهدَّدة بكتل النيران الإقليمية على أمنها القومي، وبكتل الجليد السياسية على أمنها الداخلي. ومن حيث أهميتها، فإنها تعود إلى السياق العام، فقد كان لافتاً في مؤتمر الشباب، الذي عقد بشرم الشيخ الشهر الماضي، إبعاد الأصوات التي انخرطت بالتشهير ب يناير واصطنعت تناقضاً مع يونيو كأنهما ليستا ثورة واحدة سعياً لإنجاحه. كان ذلك إقراراً عملياً بالعبء الذي تمثله تلك الأصوات على مستقبل البلد كله، وتطلعه لبناء دولة حديثة. ما بين كتل النيران وكتل الجليد تتبدَّى المخاطر التي يجب تجنبها والفرص التي ينبغي ألا تضيع.