يمكن أن تكون بداية ظهور مصطلح (التمييز ضد المرأة) في الواقع الحقوقي عند وضع ميثاق الأمم المتحدة عام 1945، حين نص الميثاق في مادته الأولى على احترام حقوق الإنسان وتعزيزها من غير تمييز للجنس أو اللغة أو الدين ولا تفريق بين الذكر والأنثى، وبعد عام تأسست لجنة المرأة عندما أُنشئ المجلس الاقتصادي والاجتماعي في الأمم المتحدة، والتي ساهمت في شكل مباشر في وضع الإعلان العالمي لحقوق الإنسان وصوغه 1948، والذي نصت المادة الثانية فيه على منع التمييز بين البشر في مجالات عدة كان الجنس أحدها، ثم تكرر هذا المصطلح في عدد من الوثائق، وأصبح يعني التساوي التام بين المرأة والرجل. كان أهمها إعلان القضاء على التمييز ضد المرأة عام 1967. وكان هناك شبه اتفاق على نفي التمييز وتحقيق التساوي التام بين المرأة والرجل في القوانين والأعراف، خلال هذه الفترة زاد النشاط النسوي في الأمم المتحدة وأصبحت برامجها أكثر عالمية عندما أعلن عام 1975، سنة دولية للمرأة، وعقد أول مؤتمر دولي في المكسيك، في العام ذاته أعلن عن «عقد الأمم المتحدة للمرأة» (1976 - 1985)، خلاله اعتمدت الجمعية العامة للأمم المتحدة اتفاقية القضاء على مكافحة أشكال التمييز كافة ضد المرأة 1979 المتعارف عليها بالسيداو. ولا يزال مصطلح التمييز يكتسب العالمية والصفة القانونية الملزمة منذ أكثر من ثلاثة عقود والمصطلح يتبلور حول نفي أشكال التمايز كافة بين المرأة والرجل. نصت المادة الأولى من اتفاقية مكافحة التمييز ضد المرأة على بيان المعنى المراد للمصطلح، وهو: «لأغراض هذه الاتفاقية يعني مصطلح «التمييز ضد المرأة» أي تفرقة أو استبعاد أو تقييد يتم على أساس الجنس ويكون من آثاره أو أغراضه، توهين أو إحباط الاعتراف للمرأة بحقوق الإنسان والحريات الأساسية في الميادين السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والمدنية، أو في أي ميدان آخر، أو توهين أو إحباط تمتعها بهذه الحقوق أو ممارستها إياها، بصرف النظر عن حالتها الزوجية، وعلى أساس المساواة بينها وبين الرجل». وهذا المعنى الذي اختارته الاتفاقية، هو مقصود ودقيق لمراد واضعيه من خلال ما يأتي: أولاً: إن الاتفاقية بدأت به وجعلته أساس فهم المواد والحقوق الواردة بالاتفاقية، ما يعني أنه مقصود لذاته ومبني على سلسلة من الاتفاقيات والإعلانات الحقوقية والعالمية السابقة، ويعتبر المرجع النهائي في تفسير بنودها، بل إن المواد التي تلت مادة التعريف زادت من بيان المقصود، خصوصاً المادة الثانية التي أوضحت المراد من مصطلح المساواة في الاتفاقية. ثانيا: إن غالبسة المراجع التي رجعت إليها كانت تؤكد أن المادة الأولى هي التفسير القانوني للاتفاقية والمقصود بالتمييز، ويكتفى بهذا المعنى من دون التدخل في تأويله أو توضيح قانوني يتجاوز ما جاء في التعريف. ثالثا: إن المؤتمرات المتعاقبة بعد السيداو كانت لا تختلف في مفهوم التمييز، بل أدخلت مفهوماً آخر متعلق بالجندر وهو الأنماط النوعية للجنس ما يسمح بدخول الشواذ والمطالبة بالحقوق نفسها، فمنذ مؤتمر 1985 الذي عقد في نيروبي بكينيا، لاستعراض منجزات (عقد الأمم المتحدة للمرأة) وتقويمها، ثم في 1994 عندما عقد المؤتمر الدولي الثالث للإسكان والتنمية في القاهرة، وأثار الحرية الجنسية والتغيير النوعي للجنس وقانونية الإجهاض، ثم جاء عام 1995، حيث عقد المؤتمر العالمي الرابع للمرأة في بكين، وبعده جاء مؤتمر بكين + 5 عام 2000 في نيويورك، ثم بكين + 10 وبكين + 15، كل هذه المؤتمرات لم تقيد المعنى أو تختلف في تفسيره. رابعاً: إن محاضر جلسات المتابعة للاتفاقية كانت تنتقد الدول الأعضاء، خصوصاً الإسلامية في قضايا التمييز، وعدم المساواة المطلقة مع الرجل ، كانتقادها للتعدد والإرث والقوامة وغيرها، ما يعني أن التطبيق كان واضحاً في تفسير المراد بالتمييز أنه شكل لكل صور التفريق والاستبعاد والتقييد المطلق للمرأة في مقابل الرجل. وأحب أن أسجل بعض الملاحظات في هذا المقام: أولاً: عملت مقارنة بين السيداو واتفاقية مكافحة التمييز ضد العنصرية، ووجدت أن الأخيرة أكثر تفصيلاً واحتراماً لسيادة الدول وأنظمتها المحلية، وجاءت لرفع الظلم أكثر من أن تمرر معها أجندة آيديولوجية كما هو الحال في السيداو. وإليكم نص الاتفاقية في موادها الأولى: 1- «في هذه الاتفاقية، يقصد بتعبير «التمييز العنصري» أي تمييز أو استثناء أو تقييد أو تفصيل يقوم علي أساس العرق أو اللون أو النسب أو الأصل القومي أو الإثني ويستهدف أو يستتبع تعطيلاً أو عرقلة الاعتراف بحقوق الإنسان والحريات الأساسية أو التمتع بها أو ممارستها، على قدم المساواة، في الميدان السياسي أو الاقتصادي أو الاجتماعي أو الثقافي أو في أي ميدان آخر من ميادين الحياة العامة. 2- لا تسري هذه الاتفاقية على أي تمييز أو استثناء أو تقييد أو تفضيل بين المواطنين وغير المواطنين من جانب أي دولة طرف فيها. 3- يحـظر تـفـسير أي حـكم مـن أحكام هــذه الاتفـاقـيـة بما يـنـطوي على أي مـساس بـالأحـكام القـانـونـيـة الساريـة في الدول الأطـراف فـي ما يتعلق بالجنسية أو المواطنة أو التجـنـس، شرط خـلو هـذه الأحكام مـن أي تمييـز ضـد أي جنـسية معينة. 4- لا تعتبر من قبيل التمييز العنصري أية تدابير خاصة يكون الغرض الوحيد من اتخاذها تأمين التقدم الكافي لبعض الجماعات العرقية أو الإثنية المحتاجة أو لبعض الأفراد المحتاجين إلى الحماية التي قد تكون لازمة لتلك الجماعات، وهؤلاء الأفراد لتضمن لها ولهم المساواة في التمتع بحقوق الإنسان والحريات الأساسية أو ممارساتها، شرط عدم تأدية تلك التدابير، كنتيجة لذلك، إلى إدامة قيام حقوق منفصلة تختلف باختلاف الجماعات العرقية، وشرط عدم استمرارها بعد بلوغ الأهداف التي اتخذت من أجلها». فهذه الاتفاقية من أهم المواثيق الحقوقية ومع أهميتها تركت هامشاً من السيادة والتطبيق للدول الأعضاء، وهذا ما يتنافى مع اتفاقية السيداو المصادرة لأي توجه آخر في البيان أو التوضيح. ثانياً: المصطلحات الواردة في اتفاقية السيداو مرادةٌ لذاتها، وتهدف إلى معانٍ خاصة غير التي تعارف عليها العالم من خلال ثقافته وأديانه وأعرافه. ومن ذلك على سبيل المثل: استخدام مصطلح (الأدوار النمطية أو التقليدية) بدلاً من مصطلح (الأدوار الفطرية أو الطبيعية)، فاكتسب المصطلح صبغة سلبية أدت إلى سهولة تمرير البنود التي طالبت بالقضاء على تلك (الأدوار النمطية) من خلال مفهوم مغاير لمقتضيات الطبيعة الفطرية للمرأة، ونصت كذلك على تغيير المفهوم التقليدي للرجل وعلاقته بالمرأة والأسرة. وهذا يعني أن التوجه الداعم لهذه الاتفاقية ليست الليبرالية المعروفة باحترامها للمرأة الأم ودورها التربوي والأسري واختلافها الفسيولوجي عن الرجل، بل الليبرالية الراديكالية المتطرفة في موقفها حول العلاقة بين الرجل والمرأة من خلال تكرار مفهومWomen Empowerment، والذي يترجم بتمكين المرأة بينما معناه هو تقوية المرأة أو مقاومتها للهيمنة الذكورية على أساس الخلاف البيولوجي والصراع الذي تذكيه الحركة النسوية المتطرفة. ثالثاً: وجدت أن المخالفات الإسلامية في هذه الاتفاقية كثيرة وصريحة وبعضها ليس صريحاً في المخالفة ويمكن تأويله، وبعضها مقبول من حيث الجملة، ولكن المهم هنا هو ما يتعلق بالمواد المخالفة للشريعة الإسلامية والتي تتناقض مع كثير من التشريعات والقوانين لعدد من الدول العربية، وهذه يجب التحفظ عنها ولو بلغت أكثر ما في الاتفاقية، للأسباب الآتية: 1- هناك دول كثيرة تتحفظ عن بنودها المخالفة للثقافات والأديان ولميثاق الأمم المتحدة، ومن الإعلانات المرجعية المهمة في فهم الاتفاقيات الدولية وتفسيرها، ما يطلق عليه «إعلان وبرنامج عمل فيينا» الذي صدر عن المؤتمر الدولي لحقوق الإنسان المعقود في فيينا خلال الفترة من 14 إلى 25 حزيران 1993. حيث نص في المادة الأولى في الفقرة الخامسة منه، على أن: «جميع حقوق الإنسان عالمية وغير قابلة للتجزئة ومترابطة ومتشابكة، ويجب على المجتمع الدولي أن يعامل حقوق الإنسان على نحو شامل وبطريقة منصفة ومتكافئة، وعلى قدم المساواة، وبالمقدار نفسه من التركيز. وفي حين أنه يجب أن توضع في الاعتبار أهمية الخاصيات الوطنية والإقليمية ومختلف الخلفيات التاريخية والثقافية والدينية، فإن من واجب الدول، بصرف النظر عن نظمها السياسية والاقتصادية والثقافية، تعزيز وحماية جميع حقوق الإنسان والحريات الأساسية». فاتفاقية السيداو بخلاف سائر الاتفاقيات الحقوقية الأخرى لم تراعِ طبيعة الاختلافات والتعدديات التي توارثتها الأمم والشعوب عبر تاريخها الغابر في القدم. 2- أن الدول الكثيرة التي صادقت عليها، اعتبرتها وثيقة مانحة ومعززة لتوجهاتها في تعزيز مكانة المرأة وليست لأجل التدخل في شؤونها وأنظمتها المحلية، لذلك تحفظت كثير من الدول عن تدخلها في أنظمتها المتعلقة بالمرأة أو بالسيادة، وإذا ما حاولنا مقارنة موقف البلدان العربية من الاتفاقية ببلدان إسلامية تقدمت في مسار إرساء التجربة الديموقراطية ومسار تحديث الدولة، فإننا نلاحظ ما يأتي: معظم الدول العربية تحفظت عن مواد من الاتفاقية هي مواد أساسية ومحورية فيها، وقد انحسرت التحفظات العربية عن الاتفاقية في المواد الست الآتية: المادة (2) تتعلق بحظر التمييز في الدساتير والتشريعات الوطنية، تحفظت عنها: العراق والجزائر والمغرب وليبيا ومصر والبحرين وسورية وقطر. المادة (7) والتي تتعلق بالحياة السياسية والعامة، تحفظت عليها الكويت. بينما المادة (9) والمتعلقة بقوانين الجنسية، تحفظت عنها: الأردن والجزائر والعراق ولبنان والمغرب والكويت وتونس ومصر والسعودية والبحرين وسورية وسلطنة عمان وقطر. أما المادة (15) وهي في مساواة المرأة بالرجل أمام القانون، فتحفظت عنها الأردن والجزائر والمغرب وتونس والبحرين وسورية وسلطنة عمان وقطر. كذلك المادة (16) وتتعلق بالزواج والعلاقات الأسرية تحفظت عنها غالبية الدول. وكذا المادة (29) والمتعلقة بالتحكيم بين الدول تحفظت عنها غالبية الدول العربية أيضاً، والسعودية كان لها تحفظاً عاماً حول كل ما يخالف الشريعة الإسلامية. أما الدول الإسلامية فيمكن أن نأخذ النماذج الآتية: النموذج التركي: لا يسجل إلا تحفظاً واحداً حول الفقرة الأولى من المادة 29 فحسب، بينما باكستان لم تتحفظ سوى عن الفقرة الأولى من المادة 29، والتي تتعلق بإمكانية خضوع البلد المصادق لمحاسبة بلد مصادق ثانٍ، ولمساءلة قانونية دولية، وهي بذلك فقرة تضعف من سيادة البلد الموقع على اتفاقية السيداو. لذلك، جاء التحفظ عنها من أكثر من بلد حتى خارج الدائرة العربية الإسلامية. أما إسبانيا كدولة أوروبية غير عربية وغير مسلمة، فلم تتحفظ عن أية مادة من مواد الاتفاقية لكنها تضع شرطاً وهو ألا تمسّ هذه المواد التاج الملكي. والتحفظات عن مواد أي اتفاقية من الاتفاقيات هي من حق أي دولة في العالم، ولكن بشروط فسّرها إعلان فيينا لقانون المعاهدات حيث نصت المادة (19) على ما يأتي: «للدولة، لدى توقيع معاهدة ما أو التصديق عليها أو قبولها أو إقرارها أو الانضمام إليها، أن تبدي تحفظاً، إلا إذا: (أ) حظرت المعاهدة هذا التحفظ، أو (ب) نصت المعاهدة على أنه لا يجوز أن توضع إلا تحفظات محددة ليس من بينها التحفظ المعني، أو (ج) أن يكون التحفظ، في غير الحالات التي تنص عليها الفقرتان الفرعيتان (أ) و (ب)، منافياً لموضوع المعاهدة وغرضها». وبناءً على ما سبق، فإن للمرأة حقوقاً وعليها واجبات، وكذا الرجل، والتكامل بينهما يؤدي إلى استقرار مجتمعي يثمر علاقة منتجة وجيلاً واعياً محافظاً على قيم الأسرة المطمئنة وأخلاقياتها، وما جاء في اتفاقيات المرأة حول ضرورة نبذ التمييز ضدها، يجب أن يُتناول وفق الطبيعة الفطرية التي منحتها حق الولادة والإنجاب، ما شكّل في تكوينها الكثير من الخصائص والصفات الخلقية والنفسية المغايرة للرجل، والتسوية المطلقة بين الرجل والمرأة على خلاف هذا الأساس الطبيعي، تنذر بكوارث أخلاقية وظواهر سلبية ستكون المرأة أول من يجني ثمارها السلبية. لهذا، كان من المهم أن تعزز حقوق المرأة وتمكّن من مجالاتها المؤثرة في المجتمع من دون أن نضطرها لتجاوز طبيعتها ومحاربة تكوينها الفطري، أو أن تصادم دينها المقدس أو ثقافتها المتوارثة ما لم تكن شكلاً من أشكال الانتهاك لحقوقها المقررة والمعروفة. مفهوم التمييز ضد المرأة