تحير العلماء والمنظرون في تعريف الثقافة، وازدحمت أرفف المكتبات بالكتب والتعريفات والمفاهيم حول مفهوم الثقافة معنى ومصطلحا. في حين أننا نرى أن مفهوم العامة عنها أنها حكر على شريحة من البشر!. الثقافة ليست حكرا وليست لأناس دون آخرين، إذا ما تتبعنا تعريفاتها ومفاهيمها. فاللغويون يرون أنها "تعني صقل النفس والمنطق والفطانة، وفي القاموس: ثقف نفسه، أي صار حاذقا خفيفا فطنا، وثقفه تثقيفا أي سواه، وثقف الرمح، تعني سواه وقومه". أما عن المفهوم فهي: "إدراك الفرد والمجتمع للعلوم والمعرفة في شتى مجالات الحياة؛ فكلما زاد نشاط الفرد ومطالعته واكتسابه الخبرة في الحياة، زاد معدل الوعي الثقافي لديه وأصبح عنصرا بنّاء في المجتمع". وعند علماء النفس هي: كل ما يحويه ما أسموه بـ"الإطار المرجعي". أي مخزن التاريخ لدى الشخصية من سلوك وعادات وتقاليد وعلوم وكل ما تلتقطه الحواس الخمس، وتذهب به إلى هذا الصندوق الذي ليس هو بالذاكرة وإنما أبعد من ذلك، إذ لا يتم استدعاء محتواه بالتذكر وإنما ما ينضح به السلوك وما يخرج منه من إبداع. وعليه فهي مكتسبة وليست فطرية. وبطبيعة الحال فالتعليم يعد جزءا من الثقافة وليس مجملها. وبالتالي نستطيع القول إن "الثَّقِف" هو الفرد الحاذق المصقول شديد التحليل والتفسير والتفكير المنهجي، الذي يتحول كل هذا إلى سلوك فردي، فإذا ما تحولت الثقافة إلى سلوك جماعي أنتجت لنا ما يسمى بالحضارة. فتلتقي روؤس المثلث في هذا المنظور "الثقافة، التاريخ، الحضارة". ولا يمكن لأي منها القيام والنهوض دون الآخر. ومما دعاني لكتابة هذا المقال، هي الحالة الماسة لتوظيف هذا المصطلح، فلا ينبغي في أي علم من العلوم أو فن من الفنون الإبقاء على مصطلح دون توظيفه أو البحث في وظيفته، ونحن قد اعتدنا في احتواء ما تعج به الساحة من علوم وفنون ومصطلحات دون الرجوع للوظيفة، فيذهب السيل سدى في فلوات المفازة وتلك هي المشكلة. مجتمعاتنا العربية لديها من الثقافة والفنون والمعارف ما يسود الدنيا كلها، ولكننا لا نهتم بالثقافة نفسها، ونلقي بها على أرفف المعارض والمكتبات فقط، أما توظيفها فهو أمر أصبح يبعث على التساؤل: أين مدارج الثقافة؟ أين تفعيلها؟ أين صقلها؟ أين نشرها وتوطيدها في أذهان الأجيال؟ إذا ما سلمنا أنها شحذ الذهن كما هو نسبها إلى شحذ سن الرمح!، رأس الرمح صدئ يا سادة والران يغطي معدنه، وصناع الرماح مشغولون بشيء آخر، ناسين أو متناسين أنها العدة الكبرى للتصدي عن الهوية، عن الوطن من أفكار دخيلة، والتلاعب بأذهان شبابنا الفطريين والمستسلمين لكل ما يفد إلى آذانهم دون تمحيص أو تحليل أو تفسير أو دراية تامة!. في بلادنا نعهد بنشر الوعي وتربية الذهن وشحذ المفاهيم إلى الجمعيات، مثل جمعية الثقافة والفنون، أو جمعية المسرحيين على سبيل المثال، فالممارسة هي لب التسرب الثقافي إلى الوجدان الجمعي عن طريق الفعل نفسه، فالكتاب هو رافد واحد ولا يتم تفعيله وتسرب آلياته إلا إذا ما اتخذ سلوكا أو مسلكا؛ كآنية الفخار التي لا تكتسب صلابتها إلا إذا دخلت الفرن. ولا يوجد لدينا هيئات رسمية لهذا الشأن، سوى شذرات مثل الجنادرية أو عكاظ أو المعارض، التي تحولت إلى أداءات مناسباتية أكثر منها ممارسات يومية، يجدها الفرد أنى شاء ومتى شاء وفي كل مكان!. لماذا التقشف في الثقافة والفنون والآداب؟. لماذا التقشف في النشر والتوزيع والترويج؟! لماذ يطالب المسؤولون بالتقشف في الثقافة؟. أمر غريب! إذ يمكن أن يكون التقشف في المأكل والمشرب وفي الرواتب الباهظة، وفي "العربات والسفريات، والمولات والمشتروات والفيلات" والقصور وكل ذلك مرحَّب به؛ أما أن يتم التقشف في الثقافة فهذا أمر غريب. يقول عبدالعزيز الإسماعيل، مدير فروع جمعية الثقافة والفنون في المملكة في هذا الشأن، في حوار له: "إن حال التقشف في الجمعية قائم منذ تأسيسها، مضيفا إن الجمعية دخلت مرحلة عدم كفاية الإعانة المقدمة من وزارة المالية، في تلبية حاجات الجمعية، حتى الحد الأدنى المطلوب منها، موضحاً: نحن مضطرون إلى اتخاذ إجراءات تقشفية، وفي الوقت ذاته نسعى مع مجلس إدارة الجمعية إلى رفع الإعانة السنوية، إضافة إلى العمل على عقد شراكات وإيجاد رعاية قوية من رجال أعمال ومؤسسات مع الجمعية"، ومن هنا فالإسماعيل يستنجد برجال الأعمال لرعاية الثقافة والفنون بالمملكة، وهذا أمر أشد غرابة في وطن مثل المملكة العربية السعودية، وفي ذات الوقت الذي تحتاج فيه إلى نشر الوعي والثقافة واستجلاب العقول وتنوير الوعي ودفء الوجدان وأشياء كثيرة تحتاجها بلادنا من قواها الناعمة وفي هذا الوقت بالتحديد! سألت أستاذنا أحمد الهذيل "رئيس جمعية المسرحيين السعوديين" عن حال الجمعية التي حينما تأسست قام لها الإعلام المحلي العربي ولم يقعد؛ فأجابني بأنه لا يوجد لها مقر، وأنه يديرها من منزله على قوله وأنها لا تعمل!. كما أن الكتّاب يهرعون للخارج لطباعة مؤلفاتهم وتوزيعها وعليه فلا توزع في المملكة من إبداعاتهم إلا ما تيسر، فضلا عن توجهات دور النشر والأفكار التي تتبناها هذه الدور؛ وإن توفرت طباعة كتاب فلا يتوفر التوزيع الداخلي والخارجي وهو أهم ما في الأمر. شبابنا حين يتوجه لأفكار غريبة ويتم استقطابه في مفاهيم غريبة وهدامة للوطن، ذلك لأن صناع الفهم وشاحذي سنان الرماح لم يشغلوا الأفران، ولم يسنوا الرماح وهذه هي النتيجة!. سألت أحد الشباب عما يسمى بإقامة الدولة الإسلامية ومقرها خارج الأوطان، فأجاب وماذا في ذلك؟، فسألته وماذا عن الوطن؟ وعما إذا جاء أغراب يديرونه؟، فأجاب لا ضير في ذلك. هو ليس بمتآمر ولا عدو ولكنه لا يثقف معنى الوطن والمواطنة وهذا هو دور الثقافة. وحين سألت إحدى خريجات الجامعة لم أجدها تعرف الفرق بين الحكومة والوطن! يا سيدي الفاضل: الثقافة ليست رفاهية كي نتقشف لها.