على الفور يبدو الاسمان متشابهين بل متطابقين... ومع ذلك لا يمكن أحداً الخلط بين صاحبيهما. فالأول الذي يمكن أن يكون هو أول من يتبادر إلى ذهن الجمهور حين يذكر الاسم، هو ذلك النجم الهوليوودي الكبير الذي رحل قبل سنوات واشتهر بوسامته وإخلاصه لعمله السينمائي ولا سيما في أفلام المغامرات، أما الثاني فأقل منه شهرة بكثير وأصغر سناً. ما يجمعهما هو فقط الاسم المشترك: ستيف ماكوين... حسناً تجمعهما مهنة السينما أيضاً لكن الثاني والمعاصر لنا مخرج لا ممثل، وأسود لا أبيض، وأخيراً إنكليزي لا أميركي... وحتى وإن كان تكريمه الأسمى حتى الآن جـــاء من أميركا وتحديداً من هوليوود حيث نال فيلمه الروائي الطويـــل الثالث «12 عاماً من العبودية» جائــزة أوسكار أفضل فيلم - مستحقة - قبــــل أيام. بل إن موضوع الفيلم بدوره أميـــركي ينضوي في سياق الاهتمام المتـــجدد بقضية العبودية التي باتت تحرك كبار المخرجين في السنوات الأخــــيرة، من ستيفن سبيلبرغ («لنكولن» بعـد سنوات من «أيستاد» و»اللون القـــــرمزي») إلى كونتن تارانتينو (جانغو طليقاً»). والحقـــيقة أنه لئن كان وصول مخرجين من طيــــنة سبيلبرغ وتارانتينو إلى هذا الموضـــوع الشائك، أمراً طبيعياً كانت سينـــماهم تعد به منذ زمن طويل، فإن انخراط ماكوين فيه بدا أمراً مفاجئاً ومدهشاً. فالرجل يعتبر في لندن فناناً تشكيلياً طليعياً وتتسم أعماله بتجريد يكـــاد يبعدها عن أية قضية. بل انه من كبار الفنانين الإنكليز في هذا المجال. ثـــم انه حين لاح له في حقبة لاحقة من مســــاره الفني انه يمكن أن يعبّر عن نفسه من طريق السينما بتشجيع من صديقه الممثل والمنتج مايكل فاسبندر اتجه صوب نوع حميمي من السينما فحقق فيلماً أولَ بعنوان «جوع» عن سجن المناضل الإرلندي بوبي ساندز وموته جوعاً، ثم فيلماً سيكولوجياً عن شاب يستعبده أداؤه الجنسي هو «العار». الشوفينية المبتعدة كان واضحاً إذاً أن وصول ماكوين إلى هوليوود وأوسكاراتها من خلال فيلم مثل «12 عاماً من العبودية» أمر في منتهى الغرابة... لكنّ لا بد لنا من الإقرار بأن تلك «الغرابة» لم تكن وراء فوزه، بل الفيلم نفسه. فهو فيلم نال إجماعاً طوال شهور عرضه الماضية ولم يكن ثمة أدنى شك في أن جوائز «الأكاديمية» تنتظره لتحتفي به وبصاحبه، وبالولادة «الثالثة» لسينمائي يقيناً أنه سيكون ذا شأن في المستقبل. وهنا لا بد من فتح هلالين للتأكيد مرة أخرى على أن منح الأوسكار لهكذا فيلم أمر يضع أهل السـينما الأميركيين - وهم في مجموعهم كما نعرف، محكّمو الأوسكارات -، في مكانة تشرّفهم هم الذين يبدون منذ سنوات بعيدين من الشوفينية والانغلاق على الذات، حيث راحت احتفالاتهم بالفن السابع تتسم بالانفتاح على مبدعي الشعوب الأخرى، وليس فقط كما كان يُعتقد قبل سنوات، على الأميركيين والدائرين في فلكهم وليس فقط أيضاً من خلال جائزة أوسكار «أفضل فيلم ناطق بلغة أجنبية»... ولعل في إمكاننا أن نستشهد على هذا هنا بفيلم «الفنان» للفرنسي ميشال حزانيفبتس الذي فاز بدوره بالأوسكار قبل عامين. ولكن لماذا ترانا نبتعد في الزمن؟ فحتى نتائج هذا العام تبدو فصيحة في هذا المجال: جائزة أفضل مخرج ذهبت إلى المكسيكي ألفونسو كوارون فيما ذهبت جائزة أفضل ممثلة إلى الأسترالية الرائعة كيت بلانشيت... ويمكـــننا أن نعثر على أجانب آخرين من بين بقية الفائزين، كما على أعداد اكبر منهم في لائحة المرشحين في التصفيات النهائية وكان من بينهم، كما بتنا نعرف، عربيّان على الأقل هما الفلسطيني هاني أبو اسعد (عن فيلم «عمر») والمصرية جيهان نجيم (عن «الميدان»)... ونعرف عادة أن الترشّح إلى الأوسكارات المختلفة يعتبر في حد ذاته فوزاً كبيراً إذ إن هذا الترشح - في تصفياته النهائية التي تجري بين مئات الأفلام الآتية من أميركا ومن شتى أنحاء العالم - يعتبر اختياراً من أهل السينما الأميركيين لأفضل ما انتج في هذا العالم خلال العالم السابق على منح الجوائز... وفي هذا السياق ليس الفارق كبيراً بين أن تكون الأول الفائز بالجائزة الأكبر أو واحداً من الأربعة الباقين - بالنسبة إلى معظم الجوائز - أو التسعة المستبعدين - بالنسبة إلى جائزة افضل فيلم -، فأنت في نهاية الأمر من بين أفضل ما في عام سينمائي. ومن المؤكد انه أمر ذو دلالة أن يقرّ لك أهل السينما الهوليوودية بهذه المكانة. طبعاً نعرف في الوقت نفسه أن الإنكليزي ماكوين والمكسيكي كوارون أو الأسترالية بلانشيت ( في «بلو جاسمين» لوودي آلن) أو غيرهم إنما كان فوزهم عن أفلام أميركية لا عن أفلام تعبّر عن البلاد التي تحدروا منها... ولكن ثمة من يرى هنا عامل ثناء أضافياً: فهم كأصحاب مواهب معترف بها أولاً في بلادهم، وجدوا في هوليوود أو عند ما يدور في فلكها، مجالاً لإبداعهم ربما لم توفره لهم بلادهم نفسها.. ثم وجدوا تكريماً سامياً بعدما حققوا أعمالهم، فهل يمكن أحداً أن يلوم هوليوود على هذا أو يلومهم؟ الغرباء... الغرباء الحقيقة أن هذه المسألة في حد ذاتها ينبغي أن تعيد إلى أذهاننا حقيقة تبدو لنا في غاية الأهمية وتتعلق تحديداً بكيف انبنت هوليوود أصلاً، وبالتالي على يد من كانت ولادة السينما العالمية إن نحن اعتبرنا السينما الهوليوودية مركز الثقل تجارياً وجماهيرياً... - ويمكننا أن نقول: فنياً أيضاً -، في حركية الفن السابع على مستوى العالم كله؟ إن استعراضاً لكبار المبدعين الذين صنعوا السينما الأميركية طـــوال تاريخ بات يزيد اليـــوم عن قرن سيقول لنا علــــى الفور إن الأميركيين «الحقـيقيين» كانوا قلـــة من بينهم، ولا سيما فـــي العقود الأولى مـــن عمر السينما. فـــمن يهود أوروبا الشرقية ويسارييها الفارّين من النـــازية إلى المبـدعين الإيطاليين الفارّين من الشحّ والفاشية، إلى الفرنسيين والإنكليز والإرلنديين والدنماركيين الذين لم توفر لهم أوطانهم فرص العمل السينمائي الجيدّ، مروراً لاحقاً بجمهرة من منشقّي بلدان النظام الاشتراكي الهاربين من القمع والممارسات الستالينية... تجمّع مبدعون كثر في هوليوود وأطرافها ليحققوا على مدى عقود طويلة ذلك المتن الإبداعي الكبير الذي لولاه لكانت السينما الأميركية في معظم أفلامها مجرد نتاجات تجارية سطحية لا معنى لها وبالكاد يمكن بعض نتاجاتها أن ينخرط في التاريخ الحقيقي والجاد والمبدع للسينما العالمية. في السينما كما في أمور عديدة أخرى عرفت أميركا كيف تقدّم الفرص... حتى وإن كانت في مناسبات عديدة «ندمت» على استقدام كل تلك الطوابير المتقدمة من المبدعين وغيرهم إذ تحولوا، كيساريين وتقدميين وديموقراطيين، وفق رأي السناتور الكئيب جوزف ماكارثي إلى «دود ينخر في جسد الأمة»... كما تقاعست في مناسبات أخرى عن الاحتفال بعباقرة صنعوا لها مجداً فنياً فجحدتهم (مثالا تشارلي شابلن وألفريد هتشكوك يبدوان صارخين هنا عن إنكليزيين صنعا هوليوود فبخلت عليهما حتى بأوسكارات أعطيت لكثر يقلـــون عنــــهما موهبة، فانتهت في سلات القمامة في بعض الأحيان).. غير أن هذا كله يبدو اليوم وكأن الزمن عفا عنه. اليوم باتت هوليوود تعرف كيف ترد الدين المتراكم عليها... وما مشهد جوائز الأوسكار وهي تمنح لأجانب كثر قبل أيام، سوى الدليل القاطع على هذا... وعلى أن هوليوود تتغير ونأمل بأن يكون في هذا التغيّر عدوى ودرس لآخرين قد يتساءل بعضهم بين الحين والآخر: لماذا تنجح هوليوود فيما نفشل نحن؟ ولعل الردّ السريع والبسيط هنا هــــو القـــائل ببساطة: لأن هوليوود توفر لكثر في العالم فرصهم فإن التقطوها، راكموا لديها إبداعاً يصبح ملكاً لها وللعالم، ويحلّقون ويكُرّمون.. وإن فاتهم التقاطها طفقوا ينتحبون متحدثين عن «مؤامرات» و«عنصرية» وما شابه ذلك! الأوسكار