الانتخابات أثبتت الطاقة الكامنة في صناعة الماركة سواء أحببت ترامب أو كرهته، اتفقت أو اختلفت مع أطروحاته وأفكاره، لا بد أن تعترف بأن الإستراتيجية التسويقية التي وظفها فريقه كانت مصممة بعناية فائقة، ونفذت بدقة ومهنية وبتركيز عال جداً. في المقابل كانت إستراتيجية هيلاري كلينتون متخبطة ومترددة وارتكبت أخطاء أساسية في ما يتعلق بأبجديات التسويق ومنذ البداية. سيتعلم خبراء وطلاب التسويق من أسلوب ترامب، وسيستخلصون العبر عما يجب فعله، ولكن حملة كلينتون ستقدم لهم مادة دسمة وعِبرا جمة، في كل ما يجب أن تتجنب فعله في التسويق. تقول القاعدة الأولى في التسويق: اصنع ماركة قوية Brand واجعلها متميزة عن باقي ماركات المنافسين، الانتخابات الأخيرة أثبتت الطاقة الهائلة الكامنة في الماركة، وهذا ما أتقنه ترامب منذ البداية وحتى قبل خوضه تجربة الانتخابات. قد يشكك البعض في أن ترامب رجل أعمال ناجح، وقد يدعون أنه مجرد وريث لثروة والده، ولكن ما لا يشك فيه أحد، أن ترامب نجح نجاحاً باهراً في صناعة الماركة، ماركة Trump، ووظفها في مشاريع مختلفة حول العالم، بعضها نجح وبعضها الآخر فشل، هذه الماركة من صناعته ولم يرثها عن والده. لو حاول ترامب لعب دور الزعيم أو القائد السياسي الخبير، كعادة المرشحين للرئاسة والساعين للقيادة، لظهر كشخص مزيف وبدون مصداقية وخسر منذ البداية في عالم التسويق، ماركة الشركة عامل أساسي في نجاحها، ولها قيمة فعلية مثل كل ممتلكات وأصول الشركة المتحركة والثابتة؛ مثلاً أبل كماركة، تشكل 30 بالمئة من القيمة المالية الإجمالية لأبل الشركة. وظف دونالد ترامب كل مهاراته في مجال صناعة الماركة وسخرها في حملته الانتخابية، ومارس منذ البداية دور المتحدث الرسمي باسم هذه الماركة، أي أنه بدلاً من أن يتصرف كقائد سياسي أو رئيس للشركة المالكة، تصرف كمسوق ومروج لها وموظف مسؤول عن الاتصالات والتواصل. خدم هذا الأسلوب وهذا التموضع ترامب، وحقق له مكاسب مباشرة وغير مباشرة كثيرة، ومكنه من ضرب واصطياد أكثر من عصفور بحجر واحد. فلكي تكون جديراً بالتصديق، يجب أن تتصرف وتظهر كشخص “حقيقي” وأصلي وغير مزيف، أي أن ترامب كان طوال الوقت يلعب الدور الذي لعبه دائما وعرفه الناس واعتادوا عليه وباتوا يتوقعونه منه. لو حاول ترامب لعب دور الزعيم أو القائد السياسي الخبير، كعادة المرشحين للرئاسة والساعين للقيادة، لظهر كشخص مزيف وبدون مصداقية وخسر منذ البداية. ففي ظل مزاج أميركي عام ناقم على القيادة والطبقة السياسية، كان هذا الأسلوب نعمة وعامل نجاح كبير لترامب، وحول ضعفه في الحقل السياسي إلى قوة وطاقة دفع إيجابية. في المقابل وقعت كلينتون وطاقمها في فخ محاولة إظهار ترامب بصورة عديم الخبرة السياسية، مقارنة بالخبرة الطويلة لهيلاري كلينتون، مما عزز موقع ترامب أكثر وحفر تحت قدميها أعمق. لبناء ماركة قوية وصاعدة تنتصر سواء في عالم السياسة أو التجارة، يجب أن تكون الماركة ورسائلها واضحتين، وبسيطتين وسهلتي الفهم، وثابتتين باستمرار دون أن تتذبذبا أو تتغيرا. استخدم ترامب منذ البداية شعاراً واحداً، طبعه على كل شيء ونشره بطول شبكات التواصل الاجتماعي وعرضها. وكان الشعار يجسد هذه الماركة ويحمس جمهور ترامب المستهدف ويحفزه ويحوله إلى موجة عارمة صاخبة. لم يتزحزح ترامب عن هذا الشعار، وثبت عليه حتى النهاية. كان هذا الشعار “لنجعل أميركا عظيمة مرة أخرى”، في حين أن هيلاري غيرت شعاراتها طوال الحملة وتقلبت وأظهرتها ضعيفة ومترددة وبدون ماركة واضحة ومحددة. في البداية، كان شعار هيلاري -“تحديات كبرى، حلول حقيقية: حان الوقت لاختيار رئيس”- شعارا ضعيفا لا يعني الكثير ولا يصل إلى عقول الناس. ثم غيرته واستبدلته بسرعة بـ”تجديد الوعد الأميركي”! ثم غيرته لـ”عازم على الفوز”! وبسرعة أكبر تم تغيير هذا الشعار لـ”نحن نعمل من أجل التغيير، نعمل من أجلك”، ثم غيرته -في محاولة فاشلة لتقليد شعار أوباما- إلى “هذا هو العد التنازلي للتغيير”. القاعدة الأولى في التسويق: اصنع ماركة قوية واجعلها متميزة عن باقي ماركات المنافسين ولم ينته تردد وارتباك كلينتون عند هذا الحد، بل سرعان ما غيرت الشعار الأخير بشعار جدد يقول “مستعدة للتغيير، مستعدة للقيادة”، وأخيراً غيرته واستخدمت شعاراً أكثر ضعفاً وميوعة: “حلول من أجل أميركا”. بسهولة، تستطيع عزيزي القاريء أن تلاحظ أن كل شعارات هيلاري كلينتون تتحدث عنها هي شخصيا ولا تتوجه للناخب أو تحاكي رغباته وآماله ومخاوفه؛ فبالإضافة إلى كارثة التردد والتغيير في شعاراتها ورسائلها التسويقية، ركزت كل خطابها على نفسها، فظهرت أمام الناخب بمثابة الإنسان الذي يقضي ساعات يتحدث فقط عن نفسه بدلاً من الإصغاء للآخرين والتعاطف معهم. شعار ترامب العبقري: “لنجعل أميركا عظيمة مرة أخرى”، أولاً، لا يتحدث عن ترامب، وثانيا يحاكي شعور الإحباط عند شرائح كبيرة من الشعب الأميركي التي ترى أن أميركا لم تعد عظيمة كما كانت، وثالثا والأهم، أن هذا الشعار يعطي الجمهور وظيفة ومهمة وهدفا يجندهم ويحثهم على العمل من أجله، أي أنه يحفزهم ويجعلهم جزءا في حركة عمل جماهيرية. يقول جوهن كويلتش، البروفوسور في جامعة هارفاد “حملات التسويق الناجحة، تحث الجمهور على القيام بفعل شيء ما، فمثلاً شعار شركة نايك يصر باستمرار على حث الناس على الفعل “Just do it”، بالنسبة إلى البروفسور شعار ترامب ناجح وتجسيد ويضيف كويلتش بعدا آخر مهما: "ترامب بجعل الجمهور شريكا في تعريف الشعار وإعطائه معاني مختلفة، فشعار (لنجعل أميركا عظيمة مرة أخر)، هو بمثابة صرخة حرب (نداء الجهاد) لتحقيق هدف عظيم، يستطيع كل مواطن تفسيره وتأويله كما يشاء”. ولم ير البروفوسور أن شعارات هيلاري كلينتون تخدم ماركة محددة واعتبرها ضعيفة ولا تخاطب وجدان الناس، وأغلب شعاراتها كانت من النوع المعقد وتتحدث عن أهداف تحقيقها يحتاج إلى عملية معقدة، ولا يستطيع الإنسان العادي تخيل طريق الوصول أو الهدف المنشود بشكل واضح. قد يشكك البعض في أن نجاح ترامب يعود بشكل كبير إلى مهاراته في التسويق، مستشهداً بهجومه المبكر على الأقليات مثل المكسيكيين والمسلمين، ولكن حتى هذه لم تأت بالصدفة ولم تكن عبثية أو آتية من فراغ. شعارات هيلاري كلينتون تخدم ماركة محددة وضعيفة ولا تخاطب وجدان الناس، وأغلب شعاراتها كانت من النوع المعقد وتتحدث عن أهداف تحقيقها يحتاج إلى عملية معقدة ورغم أنها من الناحية الأخلاقية والسياسية مستهجنة، فإنها استراتيجية تسويقية قديمة؛ ففي التسويق كما في السياسة استراتيجية “فرق تسد” تحقق نجاحات كبيرة، صحيح أن هذه الاستراتيجية وتكتيكاتها لا تناسبان كل الماركات وكل المرشحين السياسيين، إلا أنهما كانتا تناسبان جداً حالة ترامب، وقام باستغلالهما إلى أبعد مدى. كان الجمهور المستهدف في حملة ترامب منطقة جغرافية محددة في أميركا تحتوي على 30 بالمئة من السكان، أغلبهم من البيض الذين يعانون حاليا من الفقر والتهميش، في الماضي كانت مناطقهم مزدهرة بالمصانع والشركات والوظائف والحياة الكريمة متوفرة، أما الآن، ولشدة التراجع الاقتصادي، أصبح يطلق على هذه المناطق الشاسعة، في قلب أميركا، مصطلح “حزام الصدأ” لكثرة انتشار المصانع المعطلة والصدئة، والشركات والبيوت المغلقة، وفي هذه المناطق تبين الإحصائيات أن معدل عمر حياة “الرجل الأبيض” يتراجع مقارنة مع باقي السكان. أراد ترامب أن يحرك هذا الجمهور بالذات، ففعل وحركه بجدارة ليجعله بمثابة الجيش الشعبي الذي تتفهمه وتتعاطف معه قطاعات أخرى من المجتمع في مناطق أخرى. سياسة “فرق تسد” في التسويق فعالة جداً وفتاكة، إن كنت مستعداً لقبول النتيجة، ولأن تكرهك وتحقد عليك قطاعات من الناس مقابل الفوز بحب وولاء القطاعات المستهدفة، فهذا التوتر الناتج من الحب والكره يطلق الحوار والنقاش والجدل المستمر ويجعل اسمك على كل لسان وتشتعل كل وسائل الإعلام ليلا نهارا بالحديث عنك. سياسة خطرة تشبه المشي في حقل ألغام، ولكن ترامب اجتاز المرحلة الأولى منها بجدارة في انتظار المراحل القادمة قبل إصدار الحكم النهائي على نجاعتها. كان ترامب بارعاً جداً في تطبيق الاستراتيجية التسويقية، براعته تتفوق على براعة بائع متمرس يمتلك عقودا من الخبرة والممارسة العملية، فعند زيارة الزبون ومخاطبته للمرة الأولى، لا يأخذ البائع والمسوق الماهر عينات من بضاعته معه، فقط يفعل ذلك البائع المبتدئ غير الواثق من نفسه أو من بضاعته، أما البائع الخبير فيذهب إلى اللقاء الأول لكي يتعرف على الزبون، يصغي إليه بتمعن محاولاً اكتشاف العوامل والأسباب التي تسبب له الألم وتجعله يشعر بالتوتر والخوف، يحاوره ليضخم هذه الآلام ويضاعف منها، يجعل الزبون يصل إلى ذروة الألم وإلى مرحلة أن يصرخ ويبكي من أجل الحصول على حل، يتوسل لكي يشتري بضاعة تخفف من آلامه أو تزيلها، عند هذه اللحظة يخرج البائع بضاعته ويفصح عنها. نجح ترامب في جعل قطاعات كبرى من الشعب الأميركي تكتشف آلامها وخوفها، أوصل الناس إلى مرحلة الصراخ والبكاء والهستيريا، بانتخابه أعلنوا بوضوح أنهم اشتروا البضاعة حتى قبل معاينتها، الآن جاءت لحظة الحقيقة، لحظة التفريق بين المسوق الماهر وبين المسوق النصاب، وما يفرق بين النوعين هو نوعية البضاعة، هل فعلاً تستطيع تخفيف آلام المجتمع أو إنهائها كلياً؟ وبالنسبة إلى ترامب الآن حان موعد تسليم البضاعة. الأيام والسنين القادمة ستكشف عن حقيقة بضاعة ترامب وعما إذا كان ينتمي إلى النوع الأول أو الثاني من المسوقين. محلل تكنولوجي :: اقرأ أيضاً شدوا أحزمتكم.. ترامب سيعيد أميركا إلى القرن 19 ميشيل أوباما.. هلا تترشحين للرئاسة رجاء هاشتاغ اليوم: معركة بين إعلاميين مصريين ترند على تويتر أبرز تغريدات العرب: قيمة الانسان والوطن هي التي لا دين لها ولا مذاهب