ما بين انشغالي بكتابة بعض الأبحاث والاستعداد لدورة نهاية الأسبوع والتحضير لمحاضرة في مؤتمر أشارك فيه بداية الأسبوع المقبل.. إضافة للتحضير لدخول ابنتي مريم إلى الحضانة، بدأت كتابة هذا المقال، لربما كتاباتي بشكل عام تلامس تخصصي وهو العلوم السياسية، ومقالاتي تعالج مواضيع في الشأن العام. ولكن ارتأيت أن يكون موضوع مقالي هذا حول أصل الحكاية، لماذا اخترت العلوم السياسية، وأن أكتب وأدرس ودرسّت السياسة، لعل ما أكتب يكون حافزاً في تغيير بعض سلوكياتنا في اختيار موضوع تعليمنا ورؤيتنا لمستقبلنا، ومع أن قصتي ليست المثالية، ومع أن نهايتها لم تكتمل بعد، ولكن لعلها تكون مفيدة للبعض، وخصوصاً مع بداية العام الجامعي الجديد. أصل الحكاية بدأ في جيل السادسة أو السابعة عندما كنت أعود من مدرستي إلى البيت، هذا البيت المكون من طابقين حينها، في الأول منهما كان دكان والدي وبجانبه بيت جدي ويعلوه بيتنا، كنت عند عودتي من المدرسة وبعد إنهاء واجباتي المدرسية أنزل لدكان والدي الذي كان يجتمع به رجال الحي؛ ليتحدثوا ويشربوا القهوة معاً، ويناقشوا مواضيع السياسة كأي بيتٍ فلسطيني، وكانت تلك اللحظة الفارقة، إنها رأس الساعة التي يعم بها الهدوء، ويرفع والدي صوت الراديو الأبيض الذي كان على يمين مكتبه، ويعم الصمت، إنها الإذاعة الإسرائيلية الثانية بدقاتها الثلاث مشيرة إلى بداية نشرة الأخبار. أي كلامٍ مني في هذه اللحظات مصيره الإسكات، إن لم يكن البهدلة، أثارني وقتها ذلك المشهد، فقوة لحظة نشرة الأخبار ولّدت عندي حافزاً للتأثير أو قُل إثبات الحضور، ومن هنا بدأ المشوار.. فكنت أصعد لبيتنا أجلس أمام التلفاز لأقتنص أي خبرٍ عاجل يمكن أن يحفل به المجلس، ويكون موضوع نقاشه، وفعلاً بدأت أنقل الأخبار في التلفاز، وخصوصاً عاجلها لوالدي والمجتمعين في دكانه، فكان يرافق ذلك إطراء والدي الذي ما يلبث أن يسمع الخبر مني، وإذ به يرفع صوت الراديو وعلى غير العادة في غير رأس الساعة؛ ليستمع للخبر الذي ذكرته، وإذ بي أصدق مراراً وتكراراً وتكون كلمات والدي المحفزة والمادحة وقوداً لنقل أخبار اليوم التالي. ما لبث أن تحوّل انشغالي بالأخبار كأداة لتحصيل الإطراء إلى شغفٍ بمعرفة ما يدور في العالم من حولنا، وفي محيطنا الفلسطيني وقضيتنا، وباتت مشاهدتي للأخبار برغبة مني للمعرفة والاطلاع، ومع ازدياد عمري ازدادت معرفتي، وهنا لا يمكن إغفال حضور عمي في بيتنا، الذي يعد من رجال السياسة والدين المخضرمين، والذي كان يستمع لحديثي "وتحليلاتي" السياسية في حينه، ويصّدق عليها وعلى صوابها في أحايين كثيرة. في المرحلة الإعدادية من تعليمي، ومع واقع أن أخبار السياسة وحديثها صار طعاماً يومياً لي، كان لا بد أن أحافظ على تحصيلي المرتفع، وخصوصاً مع انتقالي للتعليم خارج بلدتنا الصغيرة للدراسة في مدرسة تبشيرية متميزة، وهذا ما كان، فقد كنت متفوقاً، بل الأول على أقراني ولله الحمد، وازداد التفكير، وخصوصاً مع قربي من أعتاب الثانوية، وحتى دخولها، أقول ازداد التفكير بما سأدرسه في الجامعة وما موضوع تخصصي.. السياق العام الذي أعيش فيه يفرض معادلة واضحة إذا كنت متفوقاً وذا تحصيل مرتفع، فموضوع دراستك الجامعية واضح.. إنه الطب "دكتور"! كان موضوع دراستي يؤرقني، فبين حبي للعلوم السياسية، وشغفي بالسياسة، وواقع الحال الذي يتطلب دراستي للطب، كانت التخبطات، وإذا بوالدي وعند فتح هذا النقاش يحلها بسهولة "تدرس الطب.. وتتعلم السياسة من الأخبار، أو إذا شئت تدرسها بعد الطب"، كانت موافقتي على مضض، فلم يكن الوعي العام لأهمية العلوم الاجتماعية والسياسية منها متبلوراً. وهنا بدأت مشواراً أقنع به ذاتي بالطب، وأحاول تحبيب نفسي به، فأحاول الوقوف إلى جانب جدتي في مرضها ومساعدتها ومرافقتها في زياراتها للطبيب، جدتي التي كانت تعاني من مرض السكري رحمها الله، كانت قد مرت ببتر جزء من أصابع رجلها، وكنت أرافقها في هذه العمليات التي كانت تتم دون تخدير لاعتلال صحتها، فكان صوتها وصياحها يسمع كل من يمر بشارع العيادة، وأن أقف جانبها محاولاً أن أثبت لذاتي أنني أصلح أن أكون طبيباً، مع أني وبصراحة كنت لا أستهوي ذلك، ومنظر الدم يقززني.. ولكن يجب فعل ذلك. في مرحلتي الثانوية كان تخصصي علمياً، وعلاماتي ممتازة لأبعد الحدود، وعادت أسئلة موضوع التخصص تطرق بابي من جديد، ولكن بقي الجواب القديم الجديد، الطب! قُبلت في برنامج للطلاب العرب المتفوقين في التخنيون (وهو من أقوى المعاهد العليا على مستوى العالم)، لأدرس مجاناً، بل ومع راتب شهري، فكانت سنة تحضيرية لأدخل بعدها الطب الذي لم أكن بعد حائزاً على علامات قبوله، ولكن سجّلت وقبلت لموضوع البيولوجيا لأبدأ وأنتقل للطب بعد حين.. ولكن مع نهاية هذه السنة التحضيرية كان الحدث الجلل، نعم الحدث الجلل، هو مروري بدورة لإعداد القادة في تركيا، كانت تشمل فيما تشمل اختبارات ميول للطلاب، وما إن مررت بالاختبار، وإذا النتيجة تقول إن الموضوع المناسب لي هو العلوم السياسية، وهنا بدأت دقات قلبي تتسارع، وبدأت أسأل المحاضرين إذا ما كان بالإمكان دمج الطب مع السياسة، وكانت الإجابة قاطعة بالنفي! هاتفت والدي من تركيا لتكون الصدمة التي لولا البعد لكنت أحسست عقابها على جلدي، حاول والدي ثنيي، حرصاً وحباً لي ولمستقبلي، ولكنه خضع تحت وقع رغبتي وقناعتي الجامحة وسجّلت للجامعة في حيفا وقُبلت للعلوم السياسية والإعلام، وبالفعل عدت لهناك تاركاً التخنيون ومنحته، وبدأت دراستي في الجامعة بكل شغف، وكانت علاماتي كذلك ممتازة؛ لتخّولني أن أدخل مسار المتفوقين هناك، الذي من خلاله في سنة ثالثة من البكالوريوس بدأت بالماجستير وأنهيت خلال 4 سنوات اللقبين بتفوق، كرّمت من خلاله كمتفوق عمادة طلبة لأكون الثاني على دفعتي بين مئات الطلاب العرب واليهود، خلال هذه السنوات كنت ناشطاً طلابياً فاعلاً في الجامعة، وترأست لجنة الطلاب العرب بعد انتخابات في صفوف الطلاب، إضافة لعملي كمعيدٍ ومدرس في العلوم السياسية للطلاب في الجامعة وباحث في مركز دراسات. وخلال هذه السنوات لا أذكر أنني تغيبت عن دراستي لأيام تعد على أصابع اليد الواحدة، لحبي للموضوع وشغفي لمعرفة المزيد في تخصصي، أعقب ذلك قبولي لمسار خاص للدكتوراه في ألمانيا، قُبلت فيه إلى جانب عدد قليل من الطلاب من دول كثيرة في جامعة هومبولدت العريقة في برلين، وخلال سنواتي في الدكتوراه شاركت في عدد من المؤتمرات الدولية والفعاليات والدورات وها أنا أعمل على إنهاء سنتي الثالثة من الدكتوراه ورسالتها، وأتحضّر للتقدم للدكتوراه سائلاً الله التوفيق. ما جئت لأعرض بطولاتي وقدراتي هنا بقدر ما هي رسالة وددت إيصالها للطلاب وأهليهم بأن اتركوا ابنكم أو ابنتكم يقرر ما يدرس ويبدع؛ لأن مجتمعنا بحاجة لإبداعاتهم، وهي ثلاثة عوامل لاختيار موضوع الدراسة: الرغبة، والقدرة ومجال العمل وتتربع عليها جميعاً الرغبة، مجتمعنا بحاجة لطلاب في مختلف التخصصات، طلاب مبدعين مجتهدين يواجهون الصعاب ويرقون بمجتمعنا، فمع العلوم الطبية وأهميتها والمواضيع الهندسية وضرورتها فكذلك المواضيع الاجتماعية والإنسانية تهندس المجتمعات، ولنكن لبنة في تقدم أبنائنا ونفرح لنجاحهم، ولعلي لو دخلت الطب لكنت الآن أتربع على مقاعد الفاشلين أو المتحسرين.. الوقت لم يتأخر، فاختر ما تحب زميلي الطالب، واحترم اختيار والدي الحبيب. ملحوظة: التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.