×
محافظة المنطقة الشرقية

أربعة قتلى في هجوم لطالبان ضد قاعدة أميركية في أفغانستان

صورة الخبر

نُسب إلى الروائي الإنجليزي دانيال ديفو في مطلع القرن الثامن عشر رأيا مؤدّاه أن الرواية الحقّة هي التي تبرز الحقيقة إلى الوجود، وترويها كما هي أما تقديم قصة من الخيال فهذا جريمة جدّ فاضحة، وهو نوع من الكذب الذي يفتح ثغرة في القلب تنفذ منها الأكاذيب بعد استمرائها. وليس يمكن فهم هذا التلازم بين الرواية والحقيقة إلا في ضوء فهم وظيفة السرد في القرن الثامن عشر، فإن صحّ قوله فهو تأكيد للوظيفة القائلة بالتلازم بين الواقع وصوره السردية، وهو، فضلا عن ذلك، يعيد التقدير للروائيين الذين اتهموا بأنهم منقطعون عن واقعهم، ولكي يقع قبولهم في المجتمع فينبغي درء تهمة الاختلاق عنهم. غير أن ديفو رفع الأمر إلى مستوى اقتراف جريمة، حينما اعتبر التخييل جناية تفتح ثغرة في القلب تتسرب منها الأكاذيب فتفسد نقاءه، فمستودع الحقائق هو سريرة صافية تنفذ إليها تلك الحقائق بيسر، وما أن تتطفل المخيلة بأكاذيبها الصلفة على القلب حتى يستمرئ افتراءاتها، فلا يعد مستودعا للصدق، ولا أعظم خطرا من ذلك. والحال فإن ديفو عاش في الحقبة التي ازدهرت فيها التخيلات السردية التي نجد لها أمثلة كثيرة في الأعمال السردية لـسويفت ورتشاردسون وفيلدنج، وحتى عند ستيرن، وهي تركة ازدهر فيها الخيال الذي ورثته عن سرود الرومانس القديمة. وما دام ديفو قد أنكر ذلك فيكون قد مهّد الطريق أمام الرواية القائمة على البحث السردي، فروايته روبنسون كروزو عرضت تمثيلا سرديا لمغامرة رجل أبيض في كيفية تملّك جزيرة في بلاد نائية من أجل محو خطيئة اقترفها، فدشّنت بذلك لفكرة الرجل المتحضّر في عالم بدائيّ سيظل على حاله إن لم يدرج في التاريخ الاستعماري. من الصحيح أن فكرة الانقطاع لنحو من ثلاثة عقود في جزيرة نائية قد تناسب شطحات الخيال غير أن الغاية منها أبعد ما تكون عن التسلية التي كانت المخيلة تتفنن من قبل في إظهار أشكالها، فبرواية روبنسون كروزو صار ينبغي الالتفات إلى وظيفة جديدة للسرد قوامها البحث فيما ينبغي أن تقوم به الإمبراطورية، وما تزرعه من آمال عظيمة في شعبها فيما وراء البحار حتى لو كان النموذج التمثيلي لذلك شخص ضال وجد نفسه مرميا على شاطئ جزيرة مهجورة، فوظيفة السرد الاستعماري بدأت من هذه اللحظة، إذ ينبغي أن يغرى الرجل الأبيض ببلوغ أطراف العالم، والاستئثار به بذريعة تمدينه، وتلك وظيفة تتصل بالعقل أكثر مما تتصل بالمخيلة. لم يخب مفعول تلك الفكرة، فبعد نحو قرن ونصف من تجريم ديفو المخيلة، أنكر زولا أهمية المخيلة، واعتبرها مثلبة لا يصحّ الثناء عليها، وبشّر بظهور الرواية القائمة على البحث في طبائع الإنسان، فإذا كانت أحداث روايات دوماس، وبعض روايات هوغو، وصاند، تنهل من معين المخيلة، فلا ينتظر ذلك أحد في روايات ستندال وبلزاك لأن كفاءتهما السردية قامت على المعاينة والتحليل وعليه فهما عظيمان لأنهما رسما ملامح حقبتهما، وليس لأنهما أبدعا حكايات. ونصح زولا النظر إلى روايات فلوبير، والأخوين غونكور، والفونس دوديه، فضلا عن ستندال وبلزاك، للتأكد بأن مواهبهم في الكتابة السردية لا تنبع مما يتخيّلونه، بل من قدرة كلّ منهم على تصوير الطبيعة بقوة. يريد زولا بـ الطبيعة النهل من الطبائع الإنسانية في عصر من العصور، فمن هذه الطبائع تستعير الرواية مادتها وليس من التخيلات الخارقة، فالكاتب المجيد هو باحث في حوال مجتمعه، وقادر على الإحساس بتلك الأحوال، والقول بأن روايته من عمل المخيلة أصبح ذكرى منطفئة في تاريخ السرد لا فائدة ترجى منها، وبالعودة للتحقق من فرضية زولا، فيمكن مجاراته بفحص ذلك في ضوء تاريخ السرد الفرنسي في القرن التاسع عشر، إذ قضى بلزاك على فكرة الخيال السردي التي انحدرت في الأدب من الملاحم القديمة والآداب الخرافية حينما اعتبر مدونته بحثا في أحوال المجتمع الفرنسي، فقسم الكوميديا الإنسانية إلى ثلاثة أقسام هي: دراسات في العادات، ودراسات فلسفية، ودراسات تحليلية، وضمن هذه الأقسام الكبرى أعاد توزيع أعماله الروائية، فيكون قد سحب الشرعية عن الخيال ودفع بالبحث بديلا عنه، غير أنه بحث سردي يختلف عن البحث التاريخي أو الاجتماعي، يريد به كشف طبائع البشر، وعاداتهم، وأخلاقهم، بالسرد ليس بالوصف المباشر. ومنذ ذلك الوقت اتجهت الرواية إلى كونها أداة بحث في أحوال الأفراد والجماعات، وتوارت هويتها القائمة على الأحداث غير المُحتملة، وضمن هذا الإطار ينبغي فهم أعمال ستندال وبلزاك، فكلاهما بالمخيلة استبدالا البحث. الراجح أن زولا، وهو يبشّر بالمذهب الطبيعي، يريد انتزاع شرعية له بأعمال كبار الروائيين مثل ستندال وبلزاك وفلوبير، ولكنه غالى فيما ذهب إليه، فهو، من جهة، لم يفرّق بوضوح بين البحث السردي والبحث الوصفي، وصرف النظر، من جهة ثانية، عن البنى السردية للرواية، ولم يقف عليها، وكأن لا وجود لها، وانصب اهتمامه على وظيفة السرد في تحليل الطبائع الاجتماعية، والحال هذه، فمنطور زولا للسرد ووظيفته بحاجة إلى نوع من المراجعة النقدية، والتعديل، لكي يؤدي فعله في سياق تطور الظاهرة السردية، لأنه وضع يده على نقطة التحول التي شهدتها الظاهرة السردية في العصر الحديث ليس في فرنسا، فحسب، بل في روسيا وانجلترا والمانيا، فبظهور ديكنز، وثاكري، وأوستن، وانهماكهم في البحث في طبيعة العلاقات الاجتماعية، ورسم العادات والتقاليد، انحسرت الحكايات المتخيلة التي أخذ بها، ريتشاردسون، فيلدنج، ووالتر سكوت، وبظهور تولستوي ودوستويفسكي بأعمالهما التي غاصت في أحوال المجتمع الروسي، وأحوال بعض أفراده، انحسرت شرعية الرواية المتخيلة عند الجيل السابق. غير أنه من الضروري عدم تخريج فرضية زولا تخريجا متشددا بل مرنا، فالمبنى الحكائي المتخيل لم يغب عن السرد بل ظهر البحث السردي إلى جواره، ومن ثم فقد طرأ تغيير في وظيفة السرد لم يكن معروفا من قبل، وتنامى بوضوح فادركه زولا، وجعل منه ركنا في فرضيته حول الطباع الانسانية، وأول ذلك أن هذه الوظيفة الجديدة أجهزت على الأحداث غير المحتملة في الكتابة السردية، تلك الأحداث التي كان مفعولها ساريا فيما يكتبه والتر سكوت والكسندر دوماس. يحمد لزولا هذا الرصد الدقيق غير أن الإجهاز على الأحداث غير المحتملة سبق ذلك بكثير، فكتاب دون كيخوته اعتبر كتابا قاتلا لروايات الفرسان التي تنهض بكاملها على أحداث لا تمتثل لمنطق السرد، وهو منطق يفرض على الكاتب توفير سياق مقنع تنبثق منه الأحداث لا أن يخلع على شخصياته قدرات الجبابرة من غير هدف ولا غاية، ولعل القارئ يتذكر كيف صور ثيربانتس رمي أكداس من روايات الفرسان إلى ألسنة اللهب لضررها البالغ، تلك الروايات التي تسببت في تخريب عقل دون كيخوته، وتسببت في إيهام ذلك الشيخ بأنه منذور لدور بطولي يماثل أدوار فرسان القرون الوسطى. أُحرقت كتب الروسية في فناء منزل دون كيخوته لاعتمادها على الخوارق، وعدم احتمال وقوعها، ولأنها تخيلات غايتها التسلية وليس البحث. وأمسى من المعلوم أن حرق كتب الفروسية لا يعني انحسار الأحداث الخارقة فورا عن خارطة السرد، فقد اقتضى الأمر قرنين قبل أن تجنى ثمرات تلك الحرائق بظهور نمط من الروايات التي تغوص في أحوال المجتمعات وتستكشف أعماق الشخصيات بذل أن تخلع عليها أكداس من الأحداث الخارقة. ستندال بلزاك فلوبير د. عبدالله إبراهيم