تكثر هذه الأيام نغمة غريبة، شاعت على استحياء منذ فترة قريبة، لكنها انتشرت كالوباء الآن، فحواها أن القضايا العامة، سواء الداخلية أو الخارجية، لها أهلها من المتخصصين والمختصين، ولا يجوز للعامة أن يدلوا بدلوهم فيها، ويرى أنصار هذا الرأي أن تصدِّي العام بمثل هذه القضايا يضر الصالح العام، وقد يؤثر سلبياً على مصالح استراتيجية للدولة مع الغير. وهو رأي له وجاهته، خاصة أن يضمن لقائليه صدارة للمشهد ووجوداً مستمراً على الساحة، لكن الغريب أن أنصار هذا الرأي تغافلوا على حقائق معدودة لا ينبغي أن تمر على الأريب، وهي: -أن الشأن العام، حسب وصفهم وتعبيرهم، هو شأن العامة، فهؤلاء العامة يحق لهم ودون مواربة الحديث في شؤونهم، وهم أفضل من غيرهم على تناول هذه القضايا. -أن العامة -وحسب معرفتي باعتباري واحداً منهم- لم يفوّضوا الخاصة من النخبة ومَن لفّ لفّهم من أصحاب المصالح، للحديث باسمهم. -الأدهى والأمَرّ أن البلد يئن من وطأة مشكلات تكاد تعصف به، وهي جميعها مشكلات صنيعة للنخبة الذين تصدروا المشهد، ولا يزالون، ويتحدثون في القضايا العامة آناء الليل وأطراف النهار. -الفرضية التي تطرحها النخبة بعدم جواز تصدي العامة للقضايا العامة، تقوم على فرضية أن العامة أقل شأناً وقدرة على التعاطي مع قضاياهم، وأنهم دون السن القانونية، أو مصابون بأحد عوارض الأهلية التي تُقعدهم عن التفكير السليم في قضاياهم، ومن ثَم فهُم بحاجة لمن يقوم عنهم بذلك. -تعني الفرضية السابقة أن تلك النخبة سواء سياسية أو إعلامية أو غير ذلك، تكره الديمقراطية كراهية التحريم أو لا تعي أن أساس الحياة الديمقراطية هو المشاركة الإيجابية للمواطن الفرد، وأنه طالما لا توجد قوى سياسية وأحزاب طبيعية، فيحق للفرد الإدلاء بدلوه في أي قضية تمس حياته ووجوده في البلد. -الفرضية السابقة، تعني تمييزاً متأصلاً، ما بين قلة تعي وتدرك وتفهم في كل شيء، وأغلبية جاهلة فاقدة للأهلية ينبغي الحجر عليها. (أفتى كل الفتوات وأفهم في اللوغاريتمات) شعاراً رفعته النخبة المصرية وتمترست وتستّرت وراءه خلال عشرات السنين، فلم تترك قضية سياسية إلا وكانت لها أو مشكلة اقتصادية أو اجتماعية إلا وتصدت لها، وجميع جهودها باءت بفشل ذريع، وليس بين أيدينا دليل حي وواقعي على فشلها سوى حالة الوطن المزرية، ومعيشة المصري البائسة. لعل أهم ثمار الحراك السياسي خلال السنوات الخمس الماضية في مصر أنها فرضت على المصريين بجميع طوائفهم الوعي بما يحدث، والعلم جبراً بما يدور، والخروج من حالة "الإمّعة" السياسية التي تربوا عليها عشرات السنين؛ ليصبح لكل منهم موقف من كل شيء حوله سياسياً أكان أو اقتصادياً أو مجتمعياً، وسواء أكان مصيباً من وجهة نظره هو، أو مخطئا حسب رأي أنصار الرأي الآخر. فالوعي الإجباري بين العامة والناتج عن ضغط الظروف والمتغيرات السياسية والاجتماعية والاقتصادية الحادة، نزع في النهاية عن النخبة ورقة التوت التي كانوا يتخفّون وراءها، ويخفون بها عوراتهم الفكرية عن الناس. لذا فنعم الرأي القائل الآن بأن الحراك السياسي خلال السنوات الماضية قد أحدث حراكاً فكرياً موازياً، وإن كان عاصفاً أحياناً، مؤلماً للنخبة، صادماً لوجودها، ربما خلال فترة وجيزة سيشب العامة عن الطوق، سيهجرون المراهقة السياسية الحالية، وليحل مكانها قدرة على التدبر والتفكر في كافة قضايا الوطن، ووقتها سيخرج من بينهم زعامات وقامات سياسية؛ لتتصدر المشهد، ولتنزوي النخب الحالية. ملحوظة: التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.