هذا هو النزوح الثالث لناديا منذ أن دخلت الحرب مدينتها ذات عام لم يعد تحديده يسيراً على ذاكرتها ولا هي تلح على الذاكرة لتحمل لها هذا التاريخ. فلا شيء تغير في حياتها، لا قبل الحرب والنزوح ولا بعدهما. فقط بدلت مكان سكنها من شرق المدينة الذي كان يغرق قبل الحرب في البؤس والفقر إلى غربها الذي كان التجول في أحيائه، فضلاً عن العيش فيه بمثابة حلم عصي على البوح فكيف بالتحقق. وإن كانت ناديا قبل الحرب تصل في شرق المدينة إلى ربطة الخبز وطابور المازوت بشق النفس، فها هي تؤدي الدور نفسه وأقسى للوصول إلى ماء الشرب أو للحصول على كوبونات المساعدة الغذائية التي تعينها على تأمين كفايتها من لقمة العيش وهي تعيش نازحة في غرب مدينتها. وبعد نزوح أول، تعود ناديا وتنزح هذه المرة ضمن غرب المدينة نفسه من حي الحمدانية الذي أصبح على خط تماس معارك بين أطراف تحار في تأييد أحدهم، محاولة عبثاً أن تحدد لنفسها موقفاً. المبنى الذي نزحت منه تهدم بالكامل بعد أيام من مغادرتها له هي وعائلات مهجرة أخرى. وعلى أنها باتت تدرك جيداً وضعها الذي تحسد نفسها عليه أمام الآخرين، الذين تعتبر افضل منهم، لكنها لا تستطيع الامتناع عن الشعور بالغبن والقهر. فصحيح إن أمكنة نزوحها مؤمنة دائماً ولم تعرف حتى الآن الإقامة في الشارع كما حدث مع جارتها في حي الحمدانية أم أحمد التي نصبت خيمة قريباً من دوار الصنم لها ولأولادها منذ نزوحهم الأخير، لكنها تستيقظ ليلاً لتعيد قراءة رسالة مطيعة جارتها الأخرى التي تدعوها الى حفلة في منزلها الجديد في حي حلب الجديدة احتفالاً بشراء زوجها هذا المنزل بعد نزوحهم من حي الحمدانية. تحاول أن تقنع نفسها بأن هذا نصيبها، وتكبت شعورها بالظلم وهي لا تعرف إن كانت ستفلح في الشهر المقبل في الحصول على كوبونات مساعدة جديدة أما أنها ستضطر للتزلف والتشكي لأقربائها لتحصل على أقل القليل. تغمض عينيها على أصوات القذائف وتعود إلى منزلها المهدم في حي الصالحية في شرق المدينة، كما إلى منزل أهلها العربي القديم في حي باب المقام. هي نائمة في باحة المنزل الخارجية ذات صيف وأمها توقظها لتعد الإفطار وتوقظ أخيها ليجلب الخبز من فرن ساحة بزة القريب. تريد أن تصدق هذه الرؤية للحظات لتنام حتى وإن كانت تعرف أن كل هذه الأحياء باتت أثراً بعد عين، فتتذكر وكأنها ذاهلة عن ذلك أنها وفي هذه الحرب أيضاً خسرت شقيقها وأمها إياهما وأنها عاجزة حتى عن معرفة أماكن دفنهما أو زيارتها. فلو كانت تعرف أمكنتها لكانت ستروي للموتى ماهي عاجزة عن روايته للأحياء وهو كثير، أكثر حتى مما تحاول أن ترويه بخجل وحيرة لمارلين التي باتت تلتقيها في الجمعية الخيرية في حي السليمانية مع كل دفعة جديدة من الكوبونات. مارلين التي تقيم قرب خط تماس آخر في غرب المدينة الشرقي، لم تعرف إلا نزوحاً واحداً من منزلها في حي بستان الباشا إلى منزل أهلها في عوجة الجب. تتنقل كل يوم بعد دوامها بين الجمعيات الخيرية علها تحصل على كوبونات مساعدة غذائية جديدة أو بطاقات لمراجعات الأطباء بأسعار مخفضة تعينها وأهلها في ظل الغلاء المتفشي في المدينة. وبعد منتصف الليل وما أن تطفأ الكهرباء وتغرق الأحياء في الظلمة تهرب مارلين من النوم ومحاولاته إلى تصفح مواقع التواصل الاجتماعي. منذ زمن لم تعد تعرف النوم إلا على شكل دقائق خاطفة بين كابوس وآخر. صفحات فايسبوك هذه الأيام ممتلئة بصور ضحايا القصف في شرق المدينة، أطفال وأشلاء ودم وخراب تعجز على رغم كل المهانة والخوف اللذين تعيش فيهما عن تصديق أنه يجري في مدينتها وعلى بعد بضعة شوارع منها. تتذكر وهي تقلب الصور وتهرب منها ما كنت ترويه لها جدتها عن أيامها الأخيرة في مرعش التركية وعن ليالي السكاكين الطويلة التي شهدتها هناك قبل أن تتمكن وعائلتها من الهرب إلى حلب. وعلى رغم أنها ولدت وعاشت في القسم الغربي من المدينة، لكن ذاكرة الجدة عن حلب ما قبل الحرب ليست نقية كما هي ذاكرة الذين يستعيدون الصور الزاهية لبعض أحياء المدينة أو لأماكنها السياحية. فذاكرتها ممتلئة بوجوه الأطفال الفقراء القادمين بحثاً عن فرصة تعليم أفضل من الأحياء الشرقية البعيدة والقريبة إلى مدرسة ميخائيل كشور في أول الأحياء الغربية والتي عملت في التدريس فيها زمناً طويلاً قبل الحرب. في وجه كل طفل آت من شرق المدينة ومع رؤيتها لكل عائلة كانت تحدس بخراب عميم ينتظر المدينة، لكن ما حدث فاق كل مخاوفها. تحاول الآن وهي تعود بذاكرتها إلى تلك الوجوه وذلك الزمن وأن تتجاوز صورة المغني اللبناني الذي كان يغني في أحد نوادي حلب الغربية قبل أيام محاطاً بصبايا وشباب يبدون وكأنهم من مدينة أخرى حتى لا تقول من بلد آخر. فتفكر في عائلة عمها التي فقدت اثنين من أولادها الثلاثة في إحدى قذائف المعارضة على منزلهما في حلب الغربية قبل أيام. الحرب وأهوالها مع أنها قسمت المدينة بين شرق وغرب متحاربين لم تقسم في رأي كثيرين إلا المقسم. ولا تصلح الصور الملونة لماضي زاه عاشته المدينة والتي يتداولها كثر للتذكير بهول ما خسرته وأهلها إلا لتزجية الذين يطربون لحفلات المغني إياه حتى ولو على وقع القصف والقذائف. أما الذين كانوا يموتون قبل الحرب كما بعدها على تعدد أشكال الموت وظروفه، فيعرفون أن المدينة التي كانت يوماً كلها شرقاً خسرت نفسها وخسرها أهلها قبل ذلك بعقود طويلة.