في العقد الأخير برز تيار فلسفي صاعد يهتم بالفلسفة وإنتاجها، وحقق تجربة رائعة أثرت المشهد الثقافي السعودي؛ لكن البعض يصف تلك التجربة بالمربكة والتي لا يعول عليها بسبب الخلفيات الأيدولوجية التي كان ينتمي إليها معظم المنتسبين لذلك التيار قبل اهتمامهم بالفلسفة.. المتابع بدقة للمشهد الثقافي السعودي سيجد حراكا فلسفيا رائعا لموجة جديدة من الشباب السعودي فهم لم يتأثروا بأي آيدولوجيات مسبقة، أو حتى في بعض الأحداث الجسام التي مرت فهم لم يولدوا وقت حادثة الحرم، وربما كانوا يلعبون بالألعاب الصغيرة في صالة المنزل وقت تحرير الكويت، وربما كانوا يستمتعون بلعب « البلايستيشن» وقت حادثة سقوط البرجين الشهيرة، إنهم في العشرينيات من أعمارهم يتصلون مباشرة بالحراك الفلسفي العالمي، عرفوا جيدا تجربة أنتوني فلو، واستثنائية جيورجيو أقمبن، و الامتدادات الفلسفية للنظريات الأخيرة لستيفين هوكينج... ما هي نظرتهم لهذا العالم، ما هي أحلامهم و طموحاتهم في ظل عدم اعتراف من المؤسسة الرسمية بالفلسفة ؟ و ما نظرتهم لواقع تلك الموجة الجديدة من الحراك الفلسفي و أثرها المستقبلي؟ و الأهم من ذلك كله، هل يمكن عودة شعراء المعلقات الكبار في إهاب فلاسفة عظام في المملكة العربية السعودية ؟ أتفاءل بالحركة الثقافية أولا: أحب أن أشكر صحيفة الجزيرة على الاستضافة وعلى الفرصة. ثانيا، أرغب هنا بالحديث عما يمثلني أنا فقط فلن أتحدث باسم غيري أو بأفكار غيري فهذه المجموعة أو التيار ليس بتيار متجانس، بل يختلف في اهتماماته في مجال الفكر؛ بل هم أحيانا على خلاف أيديولوجي حاد، كما أسلفت أنت مسبقا في السؤال.ثالثا، أود التعليق على نقطة تم ذكرها وهي مسألة الخلفيات الأيديولوجية وعلاقتها بالاهتمام بالفلسفة والتي توحي بأن الخلفية الأيديولوجية يسبب انحرافاً عن حياد يجب أن يتبناه المرء قبل أن يهتم بالفلسفة. وهذا يخالف التاريخ الفلسفي لفلاسفة القرن العشرين جميعهم ربما إلا قلة قليلة. فلو نظرنا على سبيل المثال لا الحصر لحالة الفلسفة في فرنسا في الستينات -وهي مركز التفلسف وقتها- لرأينا خلافات سياسية حادة بين مفكرين مثل سارتر وألتوسير وفوكو ودولوز وإيتيان باليبار ودي بوفوار وكامو و بورديار ودريدا وليوتار كلهم كانوا على مواقف متباينة تصل لمرحلة الخصام والنقد الشديد. وبرأيي لم يزد اختلافهم وكونهم يأتون من خلفيات إيديولوجوية متعصبة أحيانا إلا ثراء فكرياً، وهذا ما يزيد من مستوى النقد في حالتنا المحلية للأفكار ويعرّض هذه الأفكار للجرح والتعديل. فلا سبيل لرقابة جودة الطرح الفكري في ظل غياب مظلة تفحص هذه الأفكار إلا الرقابة والنقد الداخلي من داخل هذا التيار ذاته. بصفتي مهتما بالنظرية النقدية وبالترجمة، أعتقد أن النظرة لهذا المجال هي نظرة تشابه براءة التحديق الأولى للأشياء. فوجود النظرية النقدية في الأوساط الفكرية العربية ما زال ضعيفا إذا ما قارناه بالفلسفة السياسية وفلسفة الدين وموضوعات التراث. وأعني هنا بالنظرية النقدية الشكل الواسع لها الذي يتضمن اليوم مجالات مختلفة مثل النقد الأدبي والثقافي والفني والسينمائي، خاصة الأخير الذي بدأ يبرز كمجال صاعد في الأوساط النقدية حتى أصبح الكثير ممن يوصفون على أنهم فلاسفة ومفكرون ينشغلون بالسينما والنقد السينمائي مثل جاك رانسيير وألان باديو وإدغار موران وسلافوي جيجيك وغيرهم. هذه التوجهات برأيي تجعل القدرة على رؤية العالم مفككاً أسهل بكثير، فتصبح رؤية علاقات الهيمنة والأدلجة والسلطة والتملك أوضح فهي تتراءى لنا في كل شيء في الأدب في الفنون في السياسة في الثقافات المحلية أيضا. تلك هي النظرة للعالم التي أطمح إليها في عصر تتشابك فيه المفاهيم بشكل معقد للغاية، أن تستطيع رؤية كل شيء على حدة بقدر الإمكان أو أن ترى وسيلة واحدة للترابط او وسيلتين ربما. إذا ما سُئلت عن الطموح، في حدود الممكن والمعقول هو وجود فرصة لهذه المجموعات المهتمة بالفلسفة للنقاش وتقديم أفكارها. فالوجود الوحيد لشيء كهذا ربما يكون في الجمعيات الثقافية المركزية والحلقات الفلسفية والتي تعاني الكثير من الترهل وغير المطلعة على الدوائر الجديدة محليا وخارجيا. فهذه الحركة تطمح لخلخلة مفاهيم فكرية مترسخة اجتماعيا وتأسيس بنية للتواصل والحوار والنقد وفتح أبواب جديدة لاستيراد أفكار التي من المفترض أنها ستقدم خياراً ثالثاً خارج إطار الخيارات التقليدية المطروحة من قبل التيارات الفكرية التقليدية هي الأخرى. إنني أتفاءل شخصياً بالحركة الثقافية المحلية الجديدة التي تتمظهر في حجم وازدحام معارض الكتاب لدي نا، بل ووصول القارئ المحلي لمعارض الكتاب الخليجية والعربية بشكل مستمر وواضح. أتفاءل بانتقال الحركة الثقافية الشبابية على الإنترنت كمركز إلى الشباب السعودي في سجالاتهم ونقاشاتهم وانتقال حركات الترجمة الجديدة للمحتوى الإلكتروني أيضا كمركز إلى الشباب السعودي. وهنا الحديث عن الترجمة يتضمن عدة مجالات إلى جانب الكتب، جوانب مثل: المقالات، المحاضرات، الأفلام. من حراك متنوع كهذا سيخرج أشخاص كثر في مجالات عدة، قد لا يكونون من شعراء المعلقات الكبار لكنهم حتماً إضافة لمجال ثقافي يفتقد دماء جديدة وأفكار جديدة بدلا من ركاكة الحالي وترهله. الفلسفة نحو العالم لا يلزم الفلسفة اعتراف من المؤسسة الرسميّة كي تنمو وتثمر ولا مصادقة من أيّ مظلة أخرى، وذاك لأن الفلسفة باعتبارها نشاطا ذهنيا و موقفا ذاتيا من العالم والمحيط تستطيع أن تفصح عن نفسها وتدافع عن مسائلها من خلال ممثليها.لذلك كنت ولازلت عند رؤيتي لطائفة كبيرة من الناس ترمي الفلسفة بسهام الشكّ والريبة فأني أوجه أصابع الأتهام لا لهم وإنما للمشتغلين بهذا الفن بحسبانهم هم المسؤولين عن مراكمة الأوهام حول الفلسفة كما أنهم هم القادرون على تبديد هذا الوهم ودحضه. فهم المسؤولين إن هم استمروا في تنظيرهم مستخدمين لغة نوعية متعالية وخاصة يغرقون بها السامع في مصطلحات مجردة و فنيّة يعرف دلالاتها أهل الفنّ وحدهم، وقادرون على تبديد الوهم إن هم تجاوزا المعجم الفلسفي عند تناول مقولات الفلسفة وموضوعاتها - وأشير هنا للخطابات العامة والمتدوالة - بهدف نزع الهالة المخيفة حولها وتضييق المساحة بين المتلقي والمتفلسف.مع ضرورة فهم أن التبسيط لا يعني إلغاء العمق ولا يقتضي التسيطح والإختزال.والمدرك لمسؤولية حمل الحكمة للناس سيعرف أهمية أن تطفو على السطح حاملا بيدك الجواهر لا القشور.وقد اخترت البدء في حديثي عن ضرورة إنزال الفلسفة من عليائها للناس لاعتقادنا أن الفلسفة منهج يلتحم فيه السلوك والمعتقد ليشكلا نهج حياة متكاملة ، وأنها ليست نمطا فكريا محضا يختص بفئة من البشر، ولأننا إن لم نحسم هذه المسألة فسيزداد المتسامعون عن الفلسفة خوفا وبعدا ، ونزداد عزلةً وتقوقعا. كي نساهم في الإجابة عن سؤال ( ما هي أحلام الشباب المهتم بالفلسفة وما هي نظرتهم للعالم ؟) لابد من الوقوف أولًا على مهمة الفلسفة ومالذي ستنجزه لنا في زمن الذرة و عصر العلم، ولكيلا يختلط الأمر علينا لابد أن ندرك أن فهم هذه المهمة يقتضي منا بدايةً فهم جوهر المرحلة التاريخيّة التي نمرّ بها. لهذا أقول إن أهم ما يسمُ عصرنا أننا - في لحظتنا الراهنة - نخبر تجربة جديدة على كل المستويات ، إذ نعايش مرحلة الانتقال من ضيق المحليّة إلى أفق العالميّة ، وتخرج مشاهداتنا وتصوراتنا وأفكارنا إلى حجرات كونيّة يزدحم بها البشر جميعا، وقد جاء هذا التحول مكلفًا مهددًا للمتمسكين بوهم الخصوصيّة إذ على إثره ثارث أفكار وهجمت أسئلة كان من المفترض أنها ثوابت لا تتزحزح ، وإذا بهذه الثوابت تقتعد منزلة أخرى أدنى وخُلع عنها ثوب اليقين وأصبحت محلّ نظر وبحث بعد الانقياد والتسليم وفي زمن الحجرات الفكريّة الكونيّة وبعد دخولنا الحيز الفضائي وكاستجابة للمتغير، لم ينجوا الشباب من آلام الانتقال التي تمثلت في اهتزازات شديدة أصابت الجذور الفكريّة عندهم والتي على إثرها جرى إعادة تشكيل للمنظومة الفكريّة كاملة ، بل لعلّهم كانوا مضطرين لهذا ، واضعين بالاعتبار الوثبة التي أنجزها العلم لصالح الإنسان والعالم. ( فاختاروا طريقا للمشاركة ، فكانت الفلسفة). وأعتقد أن سبب اختيارهم واهتماهم المتزايد بالفلسفة أن الشباب أدركوا أن الفلسفة هي جوازنا نحو العالم الأرحب، وأنها على مرّ العصور كانت الطريق الذي يفضي للموروث الإنساني المشترك ، جاء هذا مع تراجع حدّة القلق والخوف المحاط بالمنطق الصوري الذي بدأ الشباب يمنحه عناية جيدة بالإضافة إلى النظر في آخر منجزات العلم.فشبابُ أدرك أهمية الفلسفة باعتبارها طريقنا نحو التفاعل والتشارك مع العالم الخارجي ويراعي في منهجه الفكري الأسس المنطقية للتفكير مع توفر على معرفة دقيقة للمناهج العلمية المعاصرة وطرق البحث لا شك عندي أنه مؤهل لعبور الفضاء الكونيّ الفلسفي والمشاركة فيه والتأثير عليه . نوع الفلسفة قد يكون الشباب السعودي الذي بدأ يهتم مؤخراً بالقول الفلسفي قراءة وكتابة علامة لصدق النبؤة التي أُطلقت أوائل القرن الواحد والعشرين والقائلة بأن زمان العرب الذي نعيشه هو زمان سعودي. ويمكن أن ندعي أن هؤلاء الشباب حين خلقوا تياراً فلسفياً يجري في واقع ثقافي له نفس سمات الجغرافيا الصحراوية التي يحتلها، لا بد وأن يكون فعلهُ منطوياً على شعور بضرورة أن يكون هناك خطاب ثقافي على قدر الواقع التاريخي، إلى جانب إرادتهم القوية إلى جعل هذه الأرض الصفراء أرضاً خضراء صالحة للمعاش الطيب. وصحيح أن هذا التيار الفلسفي الصاعد يؤدي دوراً وظيفياً فرضه عليه نشوء الدول السعودية الثلاث على دعوة إصلاحية - من وجهة نظر أصحابها- لها خطاب مركب، سياسي واعتقادي موجه إلى المسلمين بالذات والعالمين بالعرض، جاعلاً الدولة السعودية الثالثة في المرتبة الثانية بعد الولايات المتحدة الأمريكية في قائمة الدول المصدرة ثقافتها إلى الخارج. لكن هذا لا ينفي كونه استجابة للمتطلبات الاجتماعية المحلية بقدر ما هو استجابة للمتطلبات الدولية و التاريخية، وهذا كله لا يحجب طرافة هذا التيار والحس الأخلاقي العميق والخلاق لدى مؤسسيه. لقد شهد غير واحد من المشتغلين بالفكر والأدب من العرب على فرادة الحراك الثقافي في السعودية من بين جميع الدول العربية، ولا نحتاج هذه الشهادة وإن كانت على قدر من الأهمية لكفاية الأرقام التي تزودنا بها جهات رصد الحراك الثقافي والاجتماعي على مواقع التواصل. وهذه الفرادة لا يجب أن تؤخذ على مذهب بني إسرائيل، فهي قطعاً لا تدل على ميزة أنطولوجية زائدة لدى المواطن السعودي تميزهُ عن باقي أهل العالم العربي، لكن تدل على وقائع وأحداث يتم تحديدها بالاستعانة بالعلوم الاجتماعية وما توفره مناهجها من أنماط تعليل. يهمني هنا أتساءل عن الظروف الاجتماعية الخاصة التي جعلت تشكيل هذا التيار ممكناً، لا لغرض طرح إجابة مدروسة، لكن لأشكك في أن ما أتفق على تسميته بجيل التنوير لم يكن على قدر المهمة؛ وهذا المشروع بحد ذاته يعطينا مشروعية لأن ندعي أن ذلك الجيل ربما، كان يريد التنوير لكنه فشل فشلاً ذريعاً لعدم توفر الشروط الثقافية و الأدوات المعرفية اللازمة، وهذا ما يفسر عدم وجود أثرهم على شباب تيار الفلسفة الوليد، وحضورهم شبه المعدوم في ذاكرة الشباب. وحتى وإن حضروا فإنهم يحضرون كموقف ثقافي سلبي (عبدالله القصيمي أنموذجاً) من هنا يمكن أن نفهم موقف المثقفين المنتمين لتقاليد ما أتفق على تسميته (بجيل التنوير - وغالباً هم المهيمنين على المؤسسات والنوادي الثقافية) من شباب تيار الفلسفة. فتململهم من الشباب و وصف حراكه الثقافي والاجتماعي بالإرتباك والتخبط هو سلوك غرائزي أكثر منه نقد ثقافي، لا يُسلم الشباب لهم مشروعية البت فيه لعدم الأهلية، ولا أدل من الوعظ الأخلاقي الذي يوجهونه للشباب، ويحسبونه نقداً معرفياً لتبرير موقف الشباب هذا. ويمكن أن نلاحظ كثرة هذا الوعظ، ونفسره بحقيقة أن المثقف التقليدي (أو إن شئتم المؤسساتي) يعلم أن زمانه انتهى، وأن التنوير مشروع أكبر من أن يختصر في مواقف ثقافية سلبية وشديدة السذاجة، وأنه مشروع غير قابل للتعليب وبالتالي استيراده كما تستورد معلبات الساردين والتونة. أما بشأن نظرتي لهذا العالم أود أن أستعيد بمقولة أبي حيان التوحيدي «الإنسان أشكل عليه الإنسان». لا يزال الإنسان بعيداً عن معرفة نفسه، هذه الحقيقة يجب أن لا نتجاوزها، ولكن يجب أن لا نهلك فيها. ويجب أن نتفق على أن بين الإنسان والعالم صلة هي الإرادة، سواء كانت إرادة سحرية أو إرادة علمية تريد أن تصنع واقعاً، لذلك قبل أن نتحدث عن العالم يجب أن نتحدث عن الإرادة ولا نستطيع الحديث عنها بدون امتلاك معرفة عن الإنسان نفسه، أقصد بدون معرفة الإنسان نفسه. ما هي هذه الإرادة؟ الجواب الناجز متعذر ما دامت معرفة الإنسان بنفسه متعذر، فكل ما يمكن أن تقدمه لنا التجربة الحية هي بعض المعطيات التي لا تملك أن تعطينا الحسم في مسائل عقدية دينية أو علمية طبيعية. مثلاً هناك معطى يقول أن كلاً من الإرادتين ما هي إلا تقنيات للسيطرة على هذا العالم، لكن ليس هناك معطيات تدعم صدقية دعاوي أصحاب هذه الإرادتين، أقصد معطيات تفيد أكثر من مجرد الترجيح. وطلب أكثر من مجرد الترجيح والظن دفع الفلاسفة للبحث عن أي الطرق الممكنة إلى ذلك، قالوا العقل وقالوا الحدس .. لا يجب أن نبحث عن نظرة سعودية للعالم بعيون هؤلاء الشباب لأن منطقهم يختلف عن الخطاب السلفي الذي نميز داخله خطاب إسلامي سعودي له فتوى وقيم وعادات خاصة وخطاب إسلامي عام. من هنا نحن بحاجة إلى يمين جديد لا يسار ثائر؛ هذه فكرة قالها لي صديق ذات جلسة، وقد أعجبتني كثيراً لقدرتها على سحب البساط من تحت اليمين التقليدي وهذا من شأنه أن يُظهر ويعيد ترتيب المسائل بالإضافة إلى تغير طريقة الطرح وطريقة الحل. هذه الحاجة يشعر بها شباب هذا التيار بشكل أو بآخر، وكأن هؤلاء الشباب يتفقون مع «محمد أركون» حين قال أنه لا يمكن استئناف القول الفلسفي بدون وجود علم كلام صلب (وعلم الكلام الصلب هو هدف أصحاب مشاريع علم الكلام الجديد). و من المبكر جداً طرح سؤال عن نوع الفلسفة التي نحتاجها، لكن من المهم أن نتفق على أنها فلسفة تحاول أن لا تكون مع أو ضد الدين، إنها فلسفة مضيافة تستضيف الجميع بدون أن تقع في فخ التبجيل والمحسوبية. وهذه الضيافة قد تكون موقف عملي من الجميع، ذلك أن الفاعلين داخل هذا التيار يتزودون فلسفياً من منابع مختلفة، بالإضافة إلى أن بعضهم غير واعين بأنهم فاعلين داخل هذا التيار بعد. ولا ننسى أنهم أصحاب تجارب خاصة، وأعني بالذات التجارب الدينية من حيث هي وقائع نفسية بالدرجة الأولى، لهذا، وللأسباب السابق ذكرها وغيرها، قد يصعب علينا تحديد مجرى هذا التيار، لكن بالتأكيد نحن قادرين على رصد أثره. لا يمكن أن أُعطي جواباً قاطعاً لسؤال كيف ينظر هؤلاء الشباب إلى العالم، لكن ألاحظ أن هؤلاء الشباب ينظرون إلى المستقبل فهل يجعل منهم ذلك أصحاب نظرة ايجابية؟ قد يكون الأمر كذلك عند بعضهم، لكن قد نواجه صعوبة من حيث أننا لا يمكن أن نغضّ الطرف عن بعضهم الآخر، والذين نلمح لديهم نزعة تختلف شدتها إلى التشاؤم، لكن ماذا لو كان من الممكن النظر إلى هذا العالم بإيجابية ولو على نحو سلبي، باعتبار أن كل انتظار للمستقبل هو موقف ايجابي من العالم في حد ذاته؟ من جهة أخرى، لو قلنا ما قاله نيتشه بأن الفلسفة هي «اعتراف شخصي من مؤلفها» بموقفه من العالم، فإننا ربما نكتشف خطورة هذا التيار، وأن موقف المؤسسة الدينية أو الثقافية السلبي منه متأتي من شعور عميق وصحيح بأنه تيار قادر على اكتساح كل شيء، وأن كل المحاولات لترويضه واحتوائه لا تحتاج إلى صدر واسع بل إلى استسلام تام لإرادة القوة المنطوي عليها، ومن هنا مصدر انزعاج وارتباك الفاعل السياسي أمام هذا التيار الخارج عن الحدود والقيود المؤسساتيّة، والذي يبدو غير قابل للتوظيف السياسي إلا على نحو محدود جداً. لكن هناك أمرا مُلحا بالنسبة للسياسي، وهو هل يمكن الوقوف ضد هذا التيار؟ إذا كان ذلك غير ممكن، فما السبيل إلى تقريبه ومصاهرته؟ هناك مفاجأة متوقعة، وهي اكتشاف حقيقة أن المثقف التقليدي يقف مع اليمين التقليدي على نفس البساط. هذا مشهد رهيب يسعى الخطاب الفلسفي الشبابي إلى إخراجه من خلال خلق يمين جديد؛ وإننا نتحدث عن تيار لا مذهب، لذلك سيكون هناك نسخ عديدة من هذا المشهد تختلف فيما بينها لاختلاف من أخرجها. ومَلاكُ هذه المشاركة ليس الغرض منه إنكار دور (جيل التنوير) لكن تحديده، و إظهار قدر تأثيره الذي ضُخمَ إلى درجة رهيبة جعلت من المخضرمين والورثة يطالبون الناس أن يشكروهم ويحمدوهم بما لم يُعطَوا. والطريف في الأمر أن مشكلتهم الأخلاقية هذه يعاني منها خصومهم السلفيون. معرفة النفس أولاً في هذا العالم سيظل المرء منّا سائرًا والأرض من تحته تسير، باحثًا عن نفسه قبل أي شيءٍ آخر، مفتشًا عن نفسه تحت كل رملة من رمال الوادي المقدس متمثلًا قصة موسى عليه السلام خالعًا نعليه عند الوادي المقدس، وتارة نجده معتكفًا في محرابه قارئًا آية الروح متمثلًا فعل محمد ظانًا أن العالم بأجمعه وجه آخر لقريش، فاليوم وفي زحام هذه الأحداث في عالمٍ بح صوته من صراخ الألم، في أرض تخضبت تربتها بالدم يستهويني أن استعير لسان إيليا أبو ماضي لأقول «أتمنّى أنّني أدري». لن يعرف المرء هدفه وحلمه إلا إذا عرف نفسه أولًا وهذا مانسعى له من خلال الإطلاع على فلسفات عديدة، بذلك نرى العالم بعيون أخرى علنا نجد فيها ما يساعدنا في صياغة رؤيتنا للحياة والكون والإنسان، أما بخصوص عدم اعتراف المؤسسة الرسمية بالفلسفة فلا أرى في ذلك مشكل، فالمؤسسات وبالأخص المؤسسة التعليمية في المدنيات الحديثة غايتها تشكيل أيادي عاملة تسهم في المقام الأول بإحداث تنمية اقتصادية، ولا أظن الفلسفة ستكون خيارا جيدا يخدم هذه الرؤية والغاية. الحراك المحتدم اليوم بين الشباب المهتم بالمعرفة والفلسفة يمكن أن نرى فيه إرهاصات وشرارة مضيئة تبشر بزيادة الوعي وتغير أساليب التفكير والمواقف العدائية نحو الفلسفة و سيعود شعراء المعلقات حينما يعود إلى الناس شعورهم بالجمال، الشعر باعتباره نص جمالي يحاكي أرواحنا أولًا يختنق اليوم في ظل انتكاس حاد لمفهوم الجمال وماهيته، ما أراه اليوم ماهو إلا وأد للحروف لتشكل لنا في نهاية المطاف كلمات تصطف بجانب بعضها لا صوت لها ولاحتى أنين . عصر الامبراطورية . سقط العالم في قبضة الإمبراطورية تلك هي الحقيقة. لم تعد التجمعات البشرية مبعثرة مترامية الأطراف بقدر ما هي ملقية في عالم صغير قادر على إذابة الحدود الأكثر صلابة، يضع نيغري وهارت مفهوم «الإمبراطورية» كشكل جديد من أشكال السيادة، ولكن يتم تذكرينا بأن حشد الأجساد يصنع قوة متمثلة»بالجمهور» إذن لسنا خارج التاريخ، ولا حتى كائنات تراثية، بل نحن وهذا ما يجب أن نعترف به متورطون بهذا التجمع البشري المخيف. للعالم طبقات ما بين افتراضي وواقعي وهذا بدوره ساعد في خلق صور رمزية تنوب عن المؤسسات كشبكات التواصل، لكن هذا لا يعني أننا لا نرغب بالاعتراف الرسمي والمشروع للخطاب الفلسفي . إن هذا الحراك يعتبر نتيجة لدخول العالم عصر الامبراطورية، ومن هنا نستطيع أن نميز هذه الموجة عن كل التجارب السابقة كونها تفتقد لإطار واضح المعالم يتكفل برسم حدود ما يجب أن يكون بكل صفاقة. لقد تم كوننة الأزمة البشرية حين نضجت التقنية وانقلبت على الإنسان ذاته ! الأرض تربة الأجساد الآدمية لذلك هي ملك الجميع وعلينا إنقاذها وهذا هو المشترك. علينا أن نسجل موقفا إزاء هذا الحراك بلا توقيع تماشيا مع صيرورة التغير المستمرة: لا يمكن التنبؤ فعليا بهذا الحراك، فلم تعد هناك ذاكرة ترفع ثقل الفكر للأجيال القادمة، ومع ذلك لابد من احتضان هذا الحراك وأرشفته. لابد أن ندرك بأن فلاسفة الانساق الكبرى انسحبوا شيئا فشيئا عن ربوة التشريع الكلي، فكل فلسفة تطمح إلى فرض رؤيتها لا تعدو عن كونها علم حزين بعبارة ادورنو. لم تعد الفلسفة إلا تحليلية أي أنها تقوم بتحليل النتائج والمعطيات، فالظاهراتية والبنيوية والبراغماتية فلسفات تبتعد عن طوباوية الفيلسوف المخلص. وما يهم أن ظهور جيل فلسفي لا يكون في الفراغ، والفيلسوف لا يلد من العدم، ولا يكون إلا حين يكشفه الآخر ويعلنه للملأ، لذلك ليس غريبا أن يقول نيتشة (فمن الناس من لا يولد إلا بعد الممات).