مفتاح شعيب من الصعب أن تمر ذكرى وعد بلفور من دون وقفة تأمل طويلة في تداعياتها المشؤومة على مدى 99 عاما، خصوصا في الواقع الحالي الذي يعتبر نتيجة موضوعية لذلك الحدث، الذي لم يقتصر على استنبات الكيان الصهيوني في أرض فلسطين العربية المغتصبة، وإنما صنع له رعاة وحلفاء ومؤيدين يعملون على تجذيره وترسيخه، وما زالوا يوفرون له كل الظروف الممكنة ليثبت ويتوسع. لم يكن وعد بلفور الوحيد الذي تلقته العصابات الصهيونية، ولكن أهميته تكمن في أنه الأكثر صراحة في منح وطن لليهود في أرض فلسطين وهو المتمم لمعاهدة سايكس - بيكو التي قسمت المنطقة العربية إلى الأشكال الجغرافية القائمة إلى الآن، مع العلم أن التخطيط لتلك المؤامرة الكبرى قد بدأ منذ نهايات القرن التاسع عشر حين طالب مؤسس الحركة الصهيونية تيودر هيرتزل بقطعة أرض تكون كيانا لليهود، وبعد تقليب عدد من الخيارات للتمويه، كانت فلسطين هي الهدف عندما بدأت تجد داعمين غربيين للمخطط الصهيوني، خصوصا من بريطانيا التي كانت تفرض احتلالها ووصايتها على فلسطين، وكان وزير خارجيتها آرثر جيمس بلفور أحد أكبر المنفذين لهذه الجريمة التاريخية التي ستظل تلاحق بعارها بريطانيا ما ظلت فلسطين تحت سيطرة العصابات الصهيونية. مع بدء هذا العام المتمم لمئوية الوعد المشؤوم، تكرر السلطة الفلسطينية مطالبة لندن بتقديم اعتذار صريح وعلني عن تلك الجريمة، والتكفير عنها بدعم مطالب الفلسطينيين بإقامة دولتهم المشروعة وعاصمتها القدس الشريف، ولكن بريطانيا لا تنوي أن تعتذر وما زالت تعمل بوصية بلفور الذي تعهد سلفا بأن الحكومة البريطانية سوف تبذل غاية جهدها لتسهيل تحقيق مقام قومي في فلسطين لليهود، وما زالت الحكومات البريطانية المتعاقبة تعمل وفق تلك الوصية، وحين أصبح رئيس الوزراء الأسبق توني بلير مبعوثا للجنة الرباعية الدولية حول الشرق الأوسط، أخذ الكيان الصهيوني وسعه في مشاريع الاستيطان والتهويد، وامتلك من الجرأة على الحقوق الفلسطينية ما لم يمتلك سابقا، كل ذلك وبريطانيا لا ترى أو تسمع النداءات الفلسطينية وآخرها ما صدر هذا العام وقبله. من المؤلم أن قلة من النخب العربية تملك الشجاعة القومية للتشهير بهذا الوعد الملعون لإعادة إحيائه في القلوب والعقول حتى لا ينسى، لا سيما في ظل هذا الانحطاط العربي غير المسبوق الذي تراجعت فيه القضية الفلسطينية إلى أدنى درجات الاهتمام، بينما يحظى الكيان الصهيوني بمزيد من الدعم والتأييد وتتقاتل من أجل ترضيته النخب والأحزاب الغربية، والدليل الحي ما يجري من تسابق بين الجمهوريين والديمقراطيين في الانتخابات الأمريكية من أجل تلك الغاية. وتخبر سيرة العقود الأخيرة أن كل الوعود التي تلقاها الصهاينة جرى الوفاء بها، أما الوعود التي أطلقوها للفلسطينيين فلم تكن أكثر منبالوناتللضحك على شعوب المنطقة لإلهائها عن قضاياها الحقيقية والارتماء في أزمات مصطنعة مثلما هو حاصل اليوم. وضع الكيان الصهيوني في قلب الوطن العربي وفي فلسطين بالذات، كان يرمي من بدايته إلى أهداف بعيدة لم تكن تُرى في ذلك الوقت، أما بعد نحو قرن من وعد بلفور فقد أصبحت الأهداف واضحة وهي أن تصبح ما تسمى إسرائيل كيانا دينيا، وحولها طوائف ومذاهب تتناحر إلى ما لا نهاية ضمن صراعات مفتوحة على آفاق مجهولة. chouaibmeftah@gmail.com