«سيدي الرئيس»، عنوان الأغنية التي أصدرها مغني الراب التونسي «الجنرال» قبل أشهر قليلة من اندلاع ثورة 14 كانون الثاني (يناير) 2011 وتوجه فيها مباشرة للرئيس الأسبق زين العابدين بن علي متهماً إياه بالضلوع في الفساد والقمع. حينذاك استمع التونسيون للأغنية داخل جدران منازلهم المغلقة، خوفاً من أن تخترق آذان بوليس بن علي خلوتهم مع الكلمات الغاضبة الرنانة لأول إبداع شبابي يقطع الصمت المؤلم الذي عاشه هذا الشعب طوال أكثر من عقدين في مواجهة دكتاتورية خانقة جعلت من الغناء وسيلة لتمجيد بن علي وتعداد منجزاته الوهمية. كان لأغنية الراب «سيدي الرئيس» في تلك الفترة أثر السحر في عقول التونسيين ونفوسهم، وبتزامن إصدارها مع اندلاع شرارات المواجهات الشعبية مع بوليس بن علي، تحولت هذه الأغنية إلى مشعل يقود المحتجين إلى طريق النضال. استمدوا من كلماتها البسيطة الأمل في التغيير وملأت نغماتها قلوبهم بالشجاعة والرغبة في مواصلة المواجهة إلى النهاية حتى وإن كانت نهايتهم وقد كانت فعلاً كذلك للمئات منهم ممن أطفأ رصاص السلطة أعمارهم. وليس لفنّ الراب في تونس تاريخ حافل قبل الثورة، فيما عدا بعض المحاولات التي حققت نجاحات متفاوتة تمحور غالبيتها حول بعض المظاهر الملفتة في المجتمع، لم ينجح مغنو الراب في كسر حاجز الصمت بشأن الموضوع الأهم أو ما اعتبر «تابوه» ألا وهو معاناة التونسيين من دكتاتورية دولة البوليس، ليبقى بذلك «الراب» مجرد ظاهرة فنية شبابية ترتكز على الإيقاع الجميل لترتيب الكلمات بشكل مختلف عن السائد مما يولد متعة وانبهاراً لدى السامعين من الشبان والمراهقين. ويقول حمادة بن عمر الملقب بـ «الجنرال» وصاحب أغنية «سيدي الرئيس» «لأن الشعب التونسي كان يشعر بالاختناق، ولم يكن يرغب سوى في التعبير بصوت عال عن أوجاعه فكنت صوته ونجحت في قول ما يريد وعرفت سجون بن علي الباردة وأخراً تنفس شعبي الحرية وها هي أصوات التونسيين عالية في كل المنابر». وكان للثورة تأثير عجيب في المشهد الغنائي في تونس. فجأة اختفت الأغاني الشعبية الهابطة واندثرت كلمات الحب والغزل والخيانة، لتحل محلها كلمات أعمق تتغنى بالحرية والانعتاق والثورة. وبرزت أسماء شبابية عشقها التونسيون وأدمنوا سماع أصواتها مثل «كنزي» و»حمزاوي «وكلاي بي بي جي « و»ام سي» وعشرات آخرين ممن أشعلوا الساحات بأغاني تحدت القمع البوليسي أثناء الثورة وبعدها باستماتة في الغوص في مشاغل التونسي السياسية والثقافية والاجتماعية والاقتصادية. غير أن انتهاء الفترة الانتقالية بتنظيم انتخابات المجلس التأسيسي وظهور التيارات السياسية المختلفة وبروز الإسلاميين بقوة على الساحة ساهم في تقسيم الشعب التونسي إلى صنفين: معارضين للإسلاميين وموالين لهم، والغريب في الأمر أن بعض مغني الراب والذين كان من الأجدر أن يلتزموا أهم مبدأ من مبادئ هذا الفن وهو الانحياز فقط إلى الطبقات المهمشة، تحولوا إلى أدوات في يد هذا الحزب أو ذاك وسرعان ما انقسم مغنو الراب إلى مجموعتين يطلق عليها التونسيون تندّراً «مغنو الراب الحلال «ومغنو الراب الحرام». وحول الاستقطاب السياسي لفناني الراب تحدثت الناشطة والمدونة هندة الشناوي بمرارة فقالت «عانى العمل الفني المقاوم والجاد قبل الثورة من التهميش والخنق وبقي المشهد في تونس متصحراً. وعلى رغم الاستفاقة النسبية للموهوبين من الشباب التونسي وإبداعهم في تحدي الأزمات عبر الغناء ومختلف التعبيرات الفنية إلا أن النظام الجديد سرعان ما فهم مدى خطورة هذه الظواهر الفنية على استقراره وشرع في محاولات لاستيعابها والإحاطة بها ومحاولة التخفيف من حدتها». وأضافت «الهدف كان شراء ضمائر شبان مهمشين بأموال سياسية وتجنيدهم لخدمة أيديولوجيات معينة والتخلص من هجوماتهم المتكررة على السياسيين فكانت المهرجانات والمساعدات المالية التي نجحت في إرضاخ بعضهم كـ «البلطي» وصاحب أهم أغنية في الثورة «الجنرال» بينما كانت السجون مصير البقية الذين صمدوا في وجه إغراء الأموال كـ «كلاي بي بي جي» و»ولد الكانز» وغيرهم». «يحللون الخمر ويحاربون الإسلام» هكذا تقول أحدث أغنية لمغني الثورة «الجنرال» الذي أصبحت جل أغانيه تصب في خانة مهاجمة من يسميهم «أعداء الإسلام» من سياسيين وإعلاميين. ويرد الجنرال على اتهامات بعض زملائه من مغني الراب والناشطين الذين يعرفونه فيقول «لم أتلق أموالاً من حركة النهضة وكنت متخوفاً من صعود الإسلاميين للسلطة، ولكن بعد وصولهم للحكم عرفت أنهم الأفضل لقيادة البلاد.» وحول استخدام حركة النهضة بعض مغني الراب في حملتها الانتخابية كـ «بسيكو أم» الذي كان حاضراً في كل محافل الحركة قال «الجنرال» لا أعرف ماذا أصاب «بسيكو ام» ولكني أعرف جيداً أنه أخطأ ولن يغفر له التونسيون وقوعه تحت إغراء المال السياسي». « البلطي» أيضاً واحد من أهم وجوه الراب في تونس قبل الثورة وبعدها أصبح وجهاً من وجوه الدعاية السياسية وتم استخدامه من قبل رجل الأعمال سليم الرياحي للترويج لحزبه أثناء الانتخابات الماضية فحصد استخفاف معجبيه ومستمعيه ولاقت أغانيه اللاحقة فشلاً ذريعاً. ويعاني في المقابل مغنو الراب الصامدون وهم قلة، التضييق والإزعاج والسجن وحتى الاعتداء المجاني بالعنف من طرف البوليس مثلما حدث للمغني الساخر «بندي رمان» خلال إحدى المسيرات السلمية. لكن وعلى رغم كل أساليب الترغيب والترهيب، لا يزال هذا الفن الجميل والفريد والشعبي والمتشبع بالمعاناة والألم والشكوى يصدح في تونس حيث الثورة متواصلة. تونسشبابثورةأغاني