بسبب شبكات التواصل الاجتماعي، كثُر في الآونة الأخيرة البائعون لعقولهم والمشترون. فالبائعون هم فئة من الشباب في زهرة عمرهم يبيع الواحد منهم عقله في شكل مجاني من حيث لا يدري، والمشترون - من دون ثمن- هم أشخاص يتقمصون شخصية المثقف الفذ والمتفرد بالحكم بأمره، والذي يستطيع بخبرته وحيله أن يملي عليــهم تفاصـــيل أفكاره وطريقة تفكيره من دون أن يشعر الشاب البائع لعقله أن عقله قد سرق منه أو أنه جند لمصلحة هذا «الفلان»، فتجد هذا الشاب يفكر بنمط التفكير نفــسه للشاري، حتى في أدق التفاصيل. أنه أسلوب «داعشي» بامتياز، أن يبيع أحد عقله وأن يقبل آخر شراءه. أن يرهن أحد عقله وأن يقبل آخر الرهن. لم يخطر ببال أحد أن يمتد أسلوب «التدعيش» وتملّك العقول من قضايا دينية واجتماعية ليطاول القضايا العلمية البحتة القضايا المبنية على البحث العملي عبر البراهين والتجريب والملاحظة. ولم يعد مستغرباً، وللأسف، أن تجد باحثاً أو دكتوراً مختصاً في مجال علمي وله صيته في شبكات التواصل الاجتماعي أن يقوم بتسفيه رأي زميله الآخر ذي التوجه العلمي المخالف، بألفاظ بشعة، ويصمه بأقذر التسميات. المشكلة ليست هنا، المشكلة أن هذا الدكتور يمثل رأس هرم للطلاب الذين يتتلمذون عليه ويكتسبون منه أسلوبه الحواري، وهذا السلوك الصادر عن «شاري» أدمغة هؤلاء الطلاب، سيمتد أثره ليصبح هؤلاء الطلاب أيقونات وبيادق لتكثيف عمليات التراشق، ومن هنا تكمن خطورة أن يمارس الشباب الجامعي أسلوب الحوار السوقي في القضايا العلمية عوضاً عن أسلوب الحوار العلمي الأصيل. خذ مثلاً هذه القضايا: أيهما أفضل، العلاج الجراحي أم العلاج الدوائي؟ أيهما أفضل العلاج الدوائي أم العلاج العشبي؟ أيهما أفضل العلاج الدوائي للاضطراب النفسي أم العلاج النفسي غير الدوائي؟ أيهما أفضل المدرسة السريالية أم المدرسة الواقعية؟ أيهما أفضل المدرسة السلوكية أم المدرسة المعرفية؟ هل تسمية «رأس الرجاء الصالح» صحيحة أم يجب تغييرها؟ الى آخره من القضايا التي هي بطبيعتها من اختصاص المختصين. لكن بعض المثقفين ومن له بيادق في التواصل الاجتماعي يحولها إلى قضايا اجتماعية لشن حرب على فلان المخالف له في الرأي. وأعجب ظاهرة يمكن أن يشهدها أي مجتمع مدني أن تتحول المناقشات العلمية المجردة إلى ممارسات تحكمها الفزعات والنخوات. ومن المضحك المبكي أن يلعب البيادق والحشد دور المهيج للبدء بشن المعارك وإشعال فتيل الحرب بين باحثين علميين لن يصلوا إلى مبتغاهم إلا بعد أن يتحول أسلوب الحوار العلمي إلى حوار قتالي حاد. ما أريد التركيز عليه هنا هو خطورة بيع طلابنا لعقولهم وخطورة أن يبدأوا في تعلم النقد قبل أن ينضج مستواهم العلمي، وخطورة أن يتجرأوا على النقد الساخر لأحد العلوم وهم لا يعرفون أبجديات هذا العلم. ينقل لي أستاذ جامعي أنه رأى توجساً ونقداً متطرفاً من أحد طلاب مرحلة الدكتوراه لمدرسة نقدية معينة، وقال انه عندما حاور هذا الطالب عن أســس هذه المدرسة وجده لا يعرف عنها سوى كلمات مبعثرة، وعندما أراد توسيع مداركه عن هذه المدرسة، أقفل الطالب عقله وأبدى حنقه وعصبيته وكأن استاذه يطلب منه أن يبدل دينه أو أن يظهر في الأرض الفساد. السؤال: مثل هذا الطالب الذي سيصبح أستاذاً في الجامعة، كيف سيكون عطاؤه للطلاب؟ وهل سينقل عدوى التعصب إلى طلابه؟ ولك أن تتخيل كيف سيتحول العلم إلى شللية من العصابات المتناحرة. ولعلي أنقل لك أيها الشباب المتعلم نصيحة سمعتها - زمن شبابي- من شايب من شيباننا، إذ نصحني بما نصه: «يا ولدي لا تسلف عقلك لأحد». أي لا تبع عقلك لأحد، بل لا تسمح لأحد أن يستلفه منك ولو لبرهة، فأنت حرٌ ما دام عقلك حراً. وأذكر أننا في فترة شبابنا أي قبل ثورة وسائل «التباعد» الاجتماعي نأخذ فكرنا من الكتب أو من أقراننا فنخطئ ونصيب، لكنك أيها الشاب اليوم، أنت تخضع لسلطة «مثقف» أكبر منك عمراً ومؤهلاً وخبرة، فإن سلّمت له الخيط والمخيط فاعلم أن عقلك قد سرق منك وأن آراءك العلمية فقدت حس علميتها. وتذكر أيها الشاب أن هناك فرقاً بين الإعجاب بعلم الأستاذ وخلقه وبين أن تبيع عقلك له، وهناك فرق بين أن تنهل من علمه وبين أن يبرمج فكرك. أسفاً على أمة أبتليت بشباب عقولها مُسخت، ومثقفين عقولهم تسرطنت.