اصبحت الموصل الان محور الاهتمام العالمي، لا لكونها ميدانا للقتال بين القوات العراقية وداعش الارهابي فقط، وانما لانها باتت ايضا محورا لصراع الاجندات المختلفة، سواء في الداخل العراقي او الاقليمي وحتى العالمي، الذي يتأثر ويؤثر بهما. للوقوف على طبيعة الصراع الحالي، لا بد من وقفة تاريخية مع الموصل بوصفها ولاية عثمانية سابقا، قبل احتلالها مع بقية الاراضي العراقية بين عامي 1914 و1918 من قبل البريطانيين، وهو العام الذي شهد التثبيت الاولي لحدود العراق مع الجارة تركيا. في عام 1918 وبعد ان وصلت القوات البريطانية، اثناء الحرب العالمية الاولى، على مشارف مدينة الموصل، وقّع البريطانيون اتفاقية او هدنة "مودروس" مع الدولة العثمانية. الاّ ان القوات البريطانية بقيادة الجنرال وليام مارشال تقدمت، بعد ثلاثة ايام على توقيع الهدنة، نحو الموصل واحتلتها وطردت الاتراك منها، وتقدمت شمالا حتى وصلت الى الحدود الحالية التي يطلق عليها "خط بروكسل" نسبة الى مدينة بروكسل عاصمة بلجيكا، التي شهدت التوقيع على انهاء القتال بين الحلفاء ودول المحور بشكل نهائي، على ان يبقى كل جيش في المكان الذي وصل اليه. وهكذا توقف الجيش البريطاني عند الحدود الحالية بين العراق وتركيا، على امل ان يتم التفاوض بشان الحدود النهائية لاحقا. لقد كان البريطانيون في اقدامهم على احتلال كامل ولاية الموصل، التي تضم اضافة الى العرب، الاكراد والتركمان والاشوريين وغيرهم من الاقليات الصغيرة جدا في تلك المرحلة، كالايزيديين والشبك والكاكئية، اعتمدوا على الخارطة التاريخية للعراق، كما يذكر المؤرخ العراقي سيّار الجميل، لان تلك المنطقة تمثل واحدة من اهم الحضارات العراقية القديمة (الحضارة الاشورية) التي تعد بنظر المؤرخين امتدادا للحضارات السومرية والبابلية، اضافة الى ان الموصل تحولت بعد الاسلام الى واحدة من اهم الحواضر العربية الاسلامية المعروفة، وان عراقيتها امر لا جدال فيه، وان خضوعها الى الدولة العثمانية لبضعة قرون، شأنها شأن الكثير من البلدان والمدن العربية والاوروبية، لا يعني انها اصبحت تركية، وان البريطانيين كانوا بعيدي نظر في هذه المسالة التي عالجوها فيما بعد بطريقة وضعت النقاط على الحروف. اذ بعد ان اتت لجنة من عصبة الامم لتقصي الحقائق، اقترحت الاستفتاء على مصير الولاية وجاءت نتيجة التصويت كاسحة لصالح البقاء في المملكة العراقية، وقتذاك، وانتهت بذلك قانونيا، مطالبة تركيا بها، لكن شرطا وضع من قبل الاتراك قبل الاستفتاء ينص على ان تكون "ولاية الموصل" اما للعراق او لتركيا ولا مجال لان تكون اقليما او بلدا مستقلا، وفي حال تحقق ذلك فان تركيا تجدد مطالبتها بها، منوهين هنا بان الولاية كانت تضم بالاضافة الى محافظة نينوى الان، كل من محافظات اربيل والسليمانية وكركوك ودهوك. بعد ان منحت الحكومة العراقية الحكم الذاتي للاكراد في المحافظات الشمالية الثلاث عام 1970، تحسست تركيا من هذا الامر. لكن في العموم نجحت اميركا في تدمير مشروع الحكم الذاتي لحسابات استراتيجية، ولكي لا يؤثر على زعزعة استقرار اكبر واهم حليفين لها في الشرق الاوسط ايران الشاه وتركيا اللتين فيهما اكراد يتطلعون للاستقلال. تركيا اليوم ترى ان محاولة اقليم كردستان ضم بعض المناطق في نينوى وكركوك، بداية لانفصاله واعلان دولة كردية، ربما. اما الاكراد فيرون ان اتفاقيات العشرينيات ومقرراتها، عفا عليها الزمن ولا يمكن تكبيل الشعوب بها الى الابد، لا سيما ان عصبة الامم نفسها انهارت واحترق ميثاقها بنيران الحرب العالمية الثانية التي اشعلتها الدول المؤسسة لها، وان تقرير المصير تقره الامم المتحدة اليوم. ما يجدر التنبيه اليه، هو ان بعض المناطق التي يطالب بها اقليم كردستان الان، ليست كردية، وتحديدا في منطقة سهل نينوى، وان المطالبة هذه تأتي في سياق اجندة دولية، تتقدمها الاميركية التي تسعى الى اقامة دولة كردية او اقليم شبه منفصل عن العراق ليكون عمقا استراتيجيا لها على حساب تركيا الحليف القديم الذي صار يتمرد ويتصرف وفقا لمصالحه التي تتعارض احيانا مع الاميركان. ومن هنا فان الصراع الخفي يتصاعد بصمت، لاسيما بعد "الربيع العربي" ومحاولة اميركا تغيير خرائط المنطقة بواسطة التنظيمات الارهابية ومنها داعش. الخلاصة، هي ان محافظة نينوى التي يشكل العرب اليوم اغلب سكانها، محافظة عراقية قبل أي توصيف قومي او عرقي لها، وان الاقليات التي تسكنها من غير الاكراد هم عراقيون غير عرب او لم يستعربوا بعد الاسلام ولم يدخلوه وظلوا على دياناتهم من دون ان يفقدوا حقهم في المواطنة بالتأكيد، كونهم سكان هذه الارض منذ الاف السنين. ومن هنا فان محاولة تركيا اقامة اقليم الموصل، ستواجه من قبل السكان، لانها تعيدهم الى الحكم العثماني بقناع جديد، وكذلك محاولة ضم مناطق من الموصل غير كردية الى الاقليم لن تنجح، لان هذا بخلاف ارادة سكانها. نعم، الاجندة المتصارعة على الموصل تتخفى تحت اقنعة مختلفة لكنها تلتقي كلها عند هدف واحد هو قيد الصراع الان! عبدالأمير المجر