بعد نجاح ملحوظ في أربعة ايام منذ انطلاق معركة الموصل وقتال على خمسة محاور من أصل سبعة على اطرافها، فاجأ خمسون عنصراً من "داعش" الجميع، وضربوا سبعة مواقع في مركز مدينة كركوك. وفيما شن "داعش" هجمات انتحارية متعددة في مناطق متفرقة من محافظة كركوك، أفاد مصدر أمني بأن انتحاريا فجّر نفسه عند مدخل مقر شرطة كركوك السابق؛ فيما هاجم مسلحون من التنظيم مقراً أمنياً في حي 90، وسط كركوك، إضافة إلى مقرات أمنية في منطقتي دمير وواحد حزيران، جنوبَ المدينة. في غضون ذلك، أكد مصدر أمني في قوات "البيشمركة" الكردية، أن انتحاريين اثنين من عناصر التنظيم فجرا نفسيهما داخل محطة للكهرباء في منطقة الدبس شمال-غرب كركوك؛ ما أسفر عن سقوط ضحايا من موظفي المحطة، لم يعرف عددهم بعد. وفيما وصلت تعزيزات أمنية من الجيش العراقي والبيشمركة إلى كركوك، فرض محافظ كركوك حالة الطوارئ في المدينة إلى إشعار آخر، واتخذ الجيش العراقي والبيشمركة إجراءات أمنية مشددة في أحياء كركوك المختلفة، وأغلقت القوات الأمنية الطريق الرابط بين كركوك، سيطر "داعش" على حيي غرناطة والممدودة بمدينة كركوك وارتفع عدد الأحياء المسيطَر عليها إلى 8 أحياء. وذكرت مصادر إعلامية أن مقاتلي حزب العمال الكردستاني دخلوا على الخط مع قوات من الاتحاد الوطني الكردستاني، في الوقت الذي تم فيه قصف الحويجة بالمدفعية. وأوضح العقيد في شرطة كركوك محمد كاميران أن "داعش تمكّن من التسلل عبر سلسلة أنفاق إلى المدينة قادماً من جبال حوران. إلى ذلك، حذر عضو التجمع العربي في كركوك مثنى الجبوري من محاولة "داعش" فتح جبهة جديدة في كركوك، لإشغال القوات العراقية التي تقاتل في الموصل. وقد وجه رئيس الوقف السني عبد اللطيف هميم بغلق الجوامع وإلغاء خطب الجمعة في كركوك، وأعلن عضو مجلس كركوك برهان العاصي أن الوضع الأمني في المحافظة متأزم. وبعد أن كان يُتوقع أن يهرب إلى غرب العراق وشرق سوريا، ضرب "داعش" في خطوط معركة الموصل الخلفية، فلماذا؟ وهل ستؤخر هجمات كركوك معركة نينوى؟ ومن المستفيد من هجوم "داعش" المفاجئ؟ ومن سمح بحدوث فراغ تسلل منه التنظيم؟ وعلى الرغم من أن الإجابة على هذه الاسئلة تبقى مرهونة بتداعيات معركة الموصل، فإنني سأضع كركوك تحت المجهر لنفقه بعضا من أسرارها الجيوسياسية التي تُشكِّل أساسا لأي إجابة موضوعية: كركوك، التي ضربها التنظيم الإرهابي، ذات واقع جغرافي وديموغرافي وتاريخي معقد، وفيها أكبر احتياطيات النفط العراقي. وقضية كركوك هي أم القضايا في العراق والمنطقة والعالم، ويدور عليها صراع محلي-إقليمي-دولي له علاقة ليس بمستقبل العراق فحسب، بل وبمستقبل المنطقة أيضا. فهل ستفتح معركة الموصل وهجمات كركوك بابا لعراق المستقبل؟ هناك ثلاثة أمور رئيسة في كركوك: أولها يرتبط بالنفط، وقد تسبب في إعطاء نصف شط العرب لإيران في اتفاقية الجزائر 1975. وإن حصل في كركوك شيء، فإنها ستتحول الى "سراييفوا العراق" وهذه ثانيا. وثالثا، من له كلمة في كركوك ستكون له الكلمة في العراق كما يؤكد المتخصصون. فهل جاء هجوم كركوك لئلا يكون لتركيا كلمة في الموصل أم العكس؟ خلال الحرب العراقية-الايرانية ذكَّر وزير خارجية تركيا يومها حافظ أوغلو إيران بتبعية كركوك والموصل لها وفق اتفاقية أنقرة 1926، وصرح بأن تركيا ستكون محايدة خلال حرب العراق وإيران، وتريد تجنيب خط نفط كركوك-تركيا أي هجمات تقوم بها القوات الإيرانية أو قوات كردية قريبة من إيران. ورد حينها هاشمي رفسنجاني على حافظ أوغلو بالقول إن تركيا تخطط للسيطرة على أكراد العراق عبر الاستيلاء على حقول نفط كركوك. وقد زار أحمد داود أوغلو عندما كان وزيرا للخارجية - كركوك في أغسطس/ آب 2012 من دون إذن بغداد، وهو ما زاد من حدة تنافس طهران وأنقرة، وابتعدت بغداد عن أربيل منذ ذلك الحين حتى اتفقتا قبل أسابيع برعاية أمريكية تمهيدا لانطلاق معركة الموصل. فهل فجر "داعش" اليوم قنبلة كركوك المؤقتة لتأخير معركة الموصل؟ إن التنافس التركي-الإيراني المتزايد منذ تقارب تركيا مع أربيل في 2008 والمتصاعد هذه الايام بسبب معركة الموصل، قد يزداد بعد هجمات كركوك وقد يقارب بينهما. وأما أن يتحول إلى صراع، فأمر مستبعد ربما بسبب أوجه التعاون المتعددة بين الطرفين إضافة إلى سياسة الاحتواء الأمريكي. وبقيت كركوك بعد 2003 واحدة من مشكلات العراق البعيدة عن الحل، وحرصت أمريكا على ألاَّ يكون في كركوك فراغ سياسي يسمح للمتطرفين باستغلاله أو لإيران وتركيا بالدخول عبره. فمن سمح له اليوم؟ ورغم أن حكومة بغداد قد عطلت في نهاية 2007 تطبيق المادة 140 من الدستور، وانسحبت أمريكا من دون تطبيق المادة 140، فقد تفتح معركة الموصل وهجمات كركوك بابا لتطبيق الدستور المعطَّل! وقد ورد في قرار مجلس الأمن 688 في 5 نيسان 1991 جملة من أهداف أمريكية مدعومة في القرار، منها: أن الكرد عامل توازن إقليمي في التغيير الديمقراطي الذي يجري في الشرق الاوسط. وختاما، فإن كركوك ستظل تحت النار والنور، لأنها لعبة حرب وسلام محلية-إقليمية-دولية أولا. وثانيا، لأنها حجر زاوية لعراق ومشرق جديد. عمر عبد الستار