دانيال بِناك، الكاتب الفرنسي المولود في الدار البيضاء، يستكشف «متعة القراءة»، طارحاً إشكالاتها في أسلوب لذيذ، شديد الطرافة (نشرته دار الساقي 2015، بترجمة يوسف حمادة). الطابع السرديُّ الذي يتخلل الصفحات في أغلبه يميل إلى الإتقان والقصدية، وتضيئه بعض الحوارات الفوضوية والرصينة في الآن ذاته. قلّما تجد سرداً عندنا نحن العرب بالنسبة إلى موضوع حيويّ ومهم كالقراءة وعوائقها ومسائلها الشائكة بهذا الشكل المتفرد. الموجود لدينا هو تكرار سمج مضجر لمأثورات وعظية تتوخى الحث على فعل القراءة وبصيغة الأمر دائماً (هل لذلك علاقة بالبنية الثقافية الاجتماعية السياسية السائدة في مجتمعاتنا العربية؟!). يقارن الكاتب «فعل القراءة» بأشياء غزتْ حيواتنا الحديثة كالسينما والتليفزيون. القراءة تحفز مخيّلة من يقوم بها، بينما لا يشكل التخيل قدراً كبيراً من الأهمية عندما نشاهد فيلماً سينمائيًّا على سبيل المثال لا الحصر. المخيّلة تتحرك هناك في المساحات البيضاء والفراغات الواسعة لما تركه المؤلف مفتوحاً على اللانهايات، بقصدٍ ودون قصد. ولكنْ مُجدداً، هل في هذا احتقار للثقافة البصرية؟ تلك الثقافة المتدفقة اللزجة التي لم تكن في الحسبان أن تنتشر قيمها وفنونها بشكل لا يمكن لأيّ قارئ ذي فطنة خاصة في عصرنا المتفجر معرفياً أن يتفاداها أو أن يُهمل تذوقها والتمرن على أساليبها اليسيرة في الحصول عليها والعسيرة من ناحية التكيف والتمتع بما تتوفر عليه من فضاءات هائلة الاتساع كمثلما تتسع المجرات التي يتم اكتشافُها كلّ يوم. لقد انقضت حقبة الطرائق الكلاسيكية في عمليتيْ الحصول على المعرفة وإنتاجها؛ لكن هل انقضى حقًّا زمن القُرَّاء النهمين؟! الأشكال والوسائل قد تتبدل وتتغير وتتنوع؛ لكن لا أحد يدّعي القضاء على ذلك الشغف المُسمّى بعادة القراءة لا يزال هناك ملايين الناس ممن يعشقون قراءة الكتب الورقية، لدرجة جعلتْ الباحثين في علم النفس يخصصون دراسات مستفيضة حول الحالة الشائعة لدى الشغوفين بالكتب؛ إذ أطلقوا عليها: هوس جمع الكتب«البيبلومانيا». زمننا الرقمي هذا لم يقتل أبداً عادة القراءة الورقية (كما تروج التعميمات السائدة)؛ ناهيك عن القراءة عبر الوسائط الرقمية. الأمس ليس بالضرورة أفضل من اليوم. يُنبّهنا «دانيال بِناك» إلى أن ما يجعلنا نقضي أوقاتاً طويلة في القراءة ليس إلا تلك اللذة المتحصّلة من جرّاء الدخول في هذه العوالم المقروءة. ذلك العشق العميق واللذيذ لفعل القراءة لا يعرفه إلا من يخوض عمليًا تجربة القراءة بحواسّه كلها. هناك حولنا الآن كثير من المُغريات التي تزيّن لنا الكسل فكريّاً وعاطفيّاً. ولم يكن الزمن القديم بالأمس خالياً بالمطلق من هذه المُغريات. الحياة بلا قراءة وفرةٌ في الراحة وفقرٌ في المعرفة والعاطفة. بالطبع مَن لا يقرأ بتاتاً هو أفضل بكثير من الذين يقرأون نصوصاً مسدودة الفكر تولّد وتغذّي فيهم نزعات التطرف وإلغاء الآخرين. ما أقصده هنا القراءة من أجل إثراء الحياة، لا من أجل إفسادها وقتلها. ما لفتَ انتباهي في الكتاب هو تلك الدعوة اللامألوفة لأنْ نضعَ عقيدة «الضرورة المطلقة للقراءة» موضع تساؤل؛ إذ يُسمِّيها مُتهكّماً «العقيدة الجامدة». هكذا يصف المؤلف تلقين الطلبة في المدارس: «السلسلة الطويلة المملّة من نصائح التربويين: يجب أن تقرأوا في الوقت الذي تدل فيه كل جملة من جملهم على أنهم لا يقرأون أبداً». إنّ مسألة القراءة تفقد معناها أصلاً عندما تتحول إلى مجرّد أيديولوجية حديدية اجترارية تتخذ وسيلتيْ التبشير والوعظ أنموذجًا للتنشئة والتعليم، كما هو الحال في الأيديولوجيات الدينية والفكرية القديمة والحديثة. القراءة، في العمق، عملية خلق واكتشاف، وفعل تحرّر وتحرير. وإذا ما عُوملتْ بوصفها فريضةً واجبةَ التأدية فقد تفقد غايتها البعيدة في تعزيز حريّة الكائن لصالح غايات آنية في تعزيز تبعيته لمختلف الأطر التدجينية. القراءة خارج الشروط القسرية تمنحها نقاوة الحب وتوهج المتعة الخالصة. يخطر هنا ما يقترحه علينا الشاعر المغربي محمد بنيس بشأن ضرورة قراءة التجارب الشعرية بما سماه «القراءة العاشقة». لا يمكن لنا أن نتخيل قارئاً لا يحبُّ ما يقرأ. وإذا حدث ذلك كان ثمة خلل، إما في حريّة الاختيار وإما في التركيبة التربوية للشخص الذاهب إلى جَنّة القراءة. وإذْ أنفاسنا تختنق تحت مخالب الانشغالات اليوميّة، هل نملك الوقت لكي نقرأ؟ يجيب الكاتب: «إن كان علينا أن نتعامل مع الحب من وجهة نظر عملنا اليوميّ، من كان سيخاطر ويعشق؟ من يملك الوقت ليكون عاشقاً؟ ومع ذلك، هل رأينا يوماً مُحبًّا لا يجد الوقت للعشق؟.. لا تخضع القراءة لتنظيم الوقت الاجتماعي، بل هي كالحبّ، أسلوب حياة». في خاتمة من أربع وعشرين صفحة يضع دانيال بِناك ما يشبه مسودّة حقوق للقارئ: «الحق في عدم القراءة، الحق في القفز عن الصفحات، الحق في عدم إنهاء الكتاب، الحق في إعادة القراءة، الحق في قراءة أي شيء، الحق في البوفارية (التماهي عاطفياً مع أشخاص أحداث النصوص)، الحق في القراءة في أي مكان، الحق في القطف من هنا وهناك، الحق في القراءة بصوت عالٍ، الحق في الصمت.(بالمناسبة، هل ثمة تشريعات قانونية لحقوق القارئ، على غرار ما هو موجود بشأن حقوق المؤلِف؟!). حتى وإن كان ثمة ما هو بديهيّ يصطبغ بتلك الحقوق العشرة؛ فإنها لا تلبث أن تفتح أفق الأسئلة حول العلاقة الجدليّة بين القارئ وبين الكتاب، بينه وبين مفردات الحياة وأشياء العالم من حوله، بخاصة في حمأة «الجنون الاستهلاكي» الذي يدمغ هذه الحقبة.