رويت في ثلاثاء الأسبوع الماضي كيف حمل «ظريف» الخارجية الإيرانية تحذيرًا من خامنئي إلى رجب طيب إردوغان، يطالبه بعدم التدخل، لإحباط الهجوم الإيراني على حلب. ثم تبيَّن أن الهدهد الإيراني حمل أيضًا «مرسالاً» عليه طابع بريد عراقي، يبلغه فيه أن العراق دولة مستقلة عن إيران. ويطالبه بانسحاب تركيا من العراق. وكأن المنطقة العربية الموبوءة بالحروب، لا ينقصها سوى حرب عراقية / تركية! فقد كان المرسال بمثابة صفارة استنفار من طهران إلى بغداد، لشن حرب إعلامية صاخبة على تركيا. وامتلأت الحملة فورًا بالتجريح. والهياج. والاتهام. والمبالغة. والتهديد بسحب السفراء. وقطع العلاقات. وتقديم شكوى إلى مجلس الأمن ضد تركيا. ووصلت إلى إعلان ميليشيات الحشد الشيعي الحرب على 300 جندي تركي موجودين في قاعدة صغيرة شمال العراق. إذا لم يستطع حيدر عبادي رئيس الحكومة العراقية والقائد الأعلى للجيش كبح جماح ميليشيات إيران، فقد يؤدي هجوم خاطئ على القاعدة التركية، إلى رد فعل تركي عنيف، يضع العراق وتركيا على شفير حرب حدودية أو واسعة، من شأنها أن تسخر من الاستعدادات العراقية، لشن حرب على «داعش» في الموصل. أود أن أشير إلى أن النفوذ الإيراني المهيمن على العراق، يتمثل بـ31 ألف عراقي وإيراني أعضاء في ميليشيا الحشد الذي يتصدر زعامته ساسة عراقيون من الشيعة. ويقوده ضباط «فيلق القدس» برئاسة قاسم سليماني. هذا الفيلق المكلف عسكريًا ومخابراتيًا بالتدخل في العالم العربي. وانتهاك استقرار وكرامة مجتمعات عربية. في مقدمتها المجتمعات السورية. والعراقية. واللبنانية. الرقم المشار إليه ليس من عندي. فقد ورد في دراسة استقصائية لحركة «مجاهدي خلق» الإيرانية المعارضة. وقالت إنها حصلت عليه من مصادر في «فيلق القدس» ذاته. ولتأكيد مصداقيته، فقد نشرت الأسماء العربية والفارسية لكل ميليشيوي. مع حسابه المصرفي. ومرتبه الذي يتقاضاه من إيران. لكن كيف تمكنت تركيا من إقامة قاعدة عسكرية لها في العراق؟ الواقع أن هذه القوة المقيمة بالقرب من الموصل، موجودة هناك منذ أوائل الثمانينات، بموجب اتفاق مع الحكومة العراقية آنذاك. ومهمتها رصد مواقع حزب العمال الكردي (التركي) في كردستان العراق. وقد شن هذا التنظيم حربًا أهلية في تركيا، أسفرت إلى الآن عن مقتل نحو خمسين ألف تركي وكردي هناك. تمكنت تركيا من لجم عنف حزب العمال، بتهديد النظام العلوي السوري الذي أوى زعيمه عبد الله أوجلان والألوف من أنصاره، متعاطفًا مع علويته. ثم أقنع بشار أباه بالاستغناء عن خدمات أوجلان. وترحيله. ثم وشى به. فاعتقل في بلد أفريقي. وهو نزيل سجن في جزيرة تركية. لكن تركيا لم تستطع لجم أعضاء الحزب المختبئين بجبال كردستان العراق. ويدعمهم أكراد جلال طالباني، مع تعاطف إيراني محرج لتركيا. مع ذلك غضت تركيا الطرف. وشكلت قوة من تركمان العراق والمسيحيين الآشوريين، تولت الفصل بين أكراد طالباني وخصمه مسعود برزاني اللذين تقاتلا في التسعينات، بعد إقامة حكم ذاتي في كردستان منفصل عن سلطة بغداد. وقتل في هذه الحرب الكردية / الكردية ثلاثة آلاف كردي. عندما وصل حزب «العدالة والتنمية» بزعامة إردوغان إلى الحكم في تركيا، في أوائل القرن الميلادي الجديد، تمكن من إقامة علاقة إيجابية مع إيران. وأكراد العراق. ونظام بغداد الشيعي القريب من طهران. بل جعل من هذه القاعدة العسكرية الصغيرة عاملاً مساعدًا على استقرار العراق. والتعايش بسلام بين مكوناته الدينية والعنصرية. نعم، تبنى إردوغان تركمان العراق. وعمل ما في وسعه لتثبيتهم في مناطقهم التي سيطر عليها أكراد كردستان بقوات البيشمركة. بما في ذلك كركوك التي يعتبرها التركمان «عاصمة» لهم. وباتوا بتوجيه من تركيا، يشاركون في إدارتها من خلال مجلس بلدية يضم 41 عضوًا (26 كرديًا. و9 تركمان. و6 عرب). بل يستطيع الوجود العسكري التركي لعب دور كبير في استقرار ريف محافظة نينوى بعد تحرير عاصمتها الموصل من نير «داعش». وتعارض تركيا بشدة تقسيم ريف نينوى الذي يشكل العرب السنة فيه الأغلبية، بينما يطالب أكراد كردستان. ونظام بغداد. وميليشيات إيران بتمزيقه، بحجة استحالة التعايش بين مكوناته العربية. والكردية. والتركمانية. والمسيحية. والإيزيدية. وبالتالي، فمن نكران الجميل أن يعامل نظام بغداد تركيا بأسلوب الإثارة تجاوبًا مع إيران. وانحيازًا لها! في مهرجان تحرير الموصل، أرسم صورة سريعة للرابحين والخاسرين: ظل جيش العبادي يتقدم خطوة. ويتأخر خطوتين طوال سنة. فقد كان عليه تمرير الجيش من أراضي طالباني. إلى أراضي برزاني. قبل الوصول إلى أراضي «داعش». أذكِّر بأن المرجع الشيعي علي السيستاني هو الذي أمر بتشكيل ميليشيات الحشد الشيعي. فاستولت عليها إيران. وارتكبت بها جرائم إبادة. وانتقامات من سنة الأنبار. والفلوجة. وتكريت. عاش المالكي 16 سنة في سوريا مدرسًا للأدب العربي في ثانوياتها. فتعلم كيف يحب إيران أكثر. لأنها أكثر مرونة وسهولة. دفعت إيران «خوة» لزعماء أكراد. وسنة. ومررت «القاعدة» إلى أفغانستان. ما زال زعماء عشائر «الصحوة» ينتظرون أن يدفع لهم حيدر العبادي ما رفض أن يدفعه المالكي. أمامي صفحات من تقارير «ويكيليكس». أنشر منها: تدفع إيران مائة مليون دولار لعمار الحكيم مفتي المجلس الشيعي الأعلى. صنعت العشائر العربية مجد الجنرال ديفيد بترايوس. فطردت «القاعدة» من الأنبار. فتحولت إلى «دواعش» في الموصل. رفض أوباما تعيين الجنرال رئيسًا للأركان. عينه رئيسًا للمخابرات. فاتُهمت صديقته اللبنانية بسرقة الأسرار. الأكراد الرابح الأكبر: برزاني حاكم لكردستان يملك. ويحكم. طالباني رئيس للعراق. يملك. ولا يحكم. هو أشبه بليلى العامرية المريضة في مستشفى ألماني. وتحلم بتركيا «الأكثر تهذيبًا من كل المتدخلين» في المتاهة العراقية. لا «داعش» فتحت السدود. فأغرقت جيوش وميليشيات تحرير الموصل. ولا تركيا استخدمت سلاح المياه. فقطعت دجلة والفرات. ولا إردوغان ينصح السوريين والعراقيين بالإقلال من شرب المياه. ولا علماء البيئة يبلغون ملايين العطشى العرب، باحتمال جفاف النهرين بعد عشرين سنة. ولا خامنئي يدعو عرب حلب إلى قدح كوكا كولا، بعد الاتفاق النووي مع باراك حسين أوباما.