يتعرض إرث المنطقة وتراثها الحضاري بين فترة وأخرى إلى موجات من محاولة التجريف والمحو، على أيد متطرفة، ولا يغيب عن ذاكرتنا القريبة ما حدث ويحدث في شمال العراق، وفي تدمر السورية على يد الدواعش، وعلى المدى المتوسط لا ننسى ما بثته على مرأى من العالم حركة طالبان أثناء تدميرها لتمثال بوذا الأثري. حكومات عديده ومجتمعات وقفت مكتوفة الأيدي أمام هذه الحركات الشرسة، ولا تستطيع دفع الأذى عن نفسها، فضلا عن الحفاظ على ذلك الإرث الثقافي التاريخي القيم. وربما هادنت بعض الأنظمة تلك الحركات؛ من أجل استغلالها في صراعاتها. قد يكون قدر هذه المنطقة -للأسف- أن التدويل في كل أمورها هو الداء والدواء في الوقت نفسه، فكما نشرت تدخلات الدول الكبرى ومؤامراتها التيارات الدينية المتطرفة من محاضنها لتعيث فسادا في المنطقة، فإن الأمل في وقف هذه الانتهاكات ومعاقبة القائمين بها قد يكون في ما أقرته أخيرا (المحكمة الجنائية الدولية) حيث وسعت تعريفها لمبدأ الانتهاكات أثناء الحروب المطبق على الانتهاكات ضد البشر، ليشمل الإضرار بالمواقع التراثية المصنفة ضمن التراث العالمي. عقدت أول محاكمة من نوعها الثلاثاء الماضي ومثل أمامها عضو القاعدة السابق، المالي الجنسية أحمد الفقيه المهدي، وصدر بحقه أول الأحكام التي تصدر بهذا الشأن. تعود الحكاية إلى بداية سنة 2012م، حين استغلت جماعة أنصار الدين، المتفرعة من تنظيم القاعدة في بلاد المغرب العربي، الزعزعة الأمنية التي حصلت في مالي وبسطت سلطتها على مدينة تمبكتو القديمة في وسط مالي، المدينة التي كانت قبل سبعة قرون مركزا تجاريا وعلميا. أسست حركة أنصار الدين حكومة محلية، وقضاء شرعيا، وقوة من الشرطة الدينية، ونظاما للحسبة، وعين المهدي، الذي كان يعتبر مرجعا دينيا، رئيسا عليها فوضع أسسها وأهدافها. قام المهدي بدور كبير في الكارثة التي لحقت بالآثار الإسلامية في تمبكتو، فقد أكد عند استشارته من قبل القضاء الشرعي بشرعية هدم الآثار التراثية، وكتب البيان الذي بموجبه بدأ الهدم. محددا فيه عشرة أماكن تراثية يجب تحطيمها، وقدم دعما لوجستيا ومعنويا كرئيس للحسبة، وشارك شخصيا في تدمير خمسة من المواقع. من ضمن الآثار التي حطمها المهدي وأتباعه المتشددون ضريح سيدي محمد منذ القرن السادس عشر، ومسجد سيدي أحمد الرقاد الشخصية الذي ألف كتابا قبل 400 سنة في الطب الشعبي. هذه المحاكمة العالمية تضع الأسس لمحاكمات الشوفينيين الدينيين الذين ينتهكون الأماكن التاريخية من مبدأ، أن مهاجمة إرث الآخرين يعتبر تعديا وإضرارا بأرواحهم ومعنوياتهم. كم هو مؤسف أننا بأيدينا نهتك تراثنا ونمحوه باسم الدين! فهناك مدارس التشدد الديني الجذرية، التي تمتلك حساسية مفرطة تجاه أي رمز ديني تاريخي متجسد من الآثار القديمة، ولا شك أن هناك الكثير ليقال عن الحركات التي اتخذت من تجريف التراث الإنساني والإسلامي مشروعا لها، لكن سعي المحكمة الجنائية العالمية سيظل ناقصا وانتقائيا ما لم تضع تلك المحاكم في حسبانها ما تقوم به دول مثل الكيان الصهيوني من تجريف ومحو منظم أمام أنظار العالم للآثار الإسلامية.