كان الكاتب المكسيكي العظيم "كارلوس فوينتس" دائما ما يقول "أنت تتكون من الشيء الذي تتناوله . ويضيف: كما أنك الكتب التي قرأتها منذ كنت طفلاً". وكان أحدهم يردد "إن الأسد في حقيقته بعض من خراف مهضومة". والثقافة، فيما أعتقد، وفي معناها الأكمل: هى ارتباط موجود للدفاع عن الهوية الوطنية التى تتجسد في المعارف والمواريث والفنون والعادات والتقاليد والطقوس التى تمنحنا دائماً معنى لعيشنا. وحين تتجسد الثقافة فى أفعال إيجابية، تواجه ما هو سلبي ، يحمل في حركته ما يهدد المعنى، الذي نعيش به، عند ذلك تكون الثقافة بالفعل أحد الدفاعات الحقيقية التى تواجه بها الأوطان أفعال الإرهاب التي تحيط بنا من كل جانب . إقامة معرض كتاب القاهرة هذا العام ، دلالة مستنيرة، وإصرار من دولة تحاول الخروج من عنق الزجاجة ، إلى فضاء رحب، نحو مستقبل يبدو بكل المعايير صعباً على نحو مريع !! فبرغم التحفز اليومي ، والإصرار على القتل، وإشاعة الفوضى والخراب فى المدن، والقرى البعيدة، والصحارى، وعدد الضحايا كل يوم، فإن الثقافة المصرية أصرت ، وبعناد أن تقيم معرضها هذا العام بمشاركة 755 ناشرا ، يمثلون 24 دولة ويحملون في صفحاتهم أسئلة الثقافة والمعارف وجديد الحداثة. يرفع المعرض شعار تحدى الموت، ويؤكد انتماءه للاستنارة والثقافة الإنسانية!! لقد انقضت السنوات الثلاثة الماضية ليس على مصر فحسب، بل على العالم كله – حافلة بالعدوان ، والفوضى ، وسطوة العنف، الذي يتجاوز الفرد إلى الجماعة، والأمة إلى الأمم، بفرضة ثقافة الأرهاب، متحولا كما يقول د. جابر عصفور "إلى قنابل موقوتة" وسط هذا المشهد، زحف المواطن بأسرته، متجاوزا المظاهرات المتربصة، والتهديد الدائم إلى معرض الكتاب السنوى. وكنت أراهم فى زحمة المعرض، وفى الأروقة، والصالات، وفضاءات المعرض الواسع، مصريين وعرباً، وأجانب، فى قاعات الندوات، وصالات عرض السينما والمسرح، ومعارض الفنون، وأرى عيالهم هناك عند المكان المزدحم بأشياء تهمهم، وهناك عند سور الأزبكية القديم ، بكتبه القديمة بأسعارها التي لا تصدق في زمن بلغ فيه سعر الكتاب الجديد ما يعجز الكثيرون عن شرائه!! هذا معرض يسترعي انتباهك لمعنيي: أولهما: أن هذا المعرض قديم، قادم من زمن ولى، رافقناه منذ صبانا الأول، حين كان يقام على أرض الجزيرة بعضا من صالات أولية منذ العام 1969. ثانيهما: أنه كان فاتحة الكتاب على الثقافة العربية حيث أصبح لكل دولة من دول العرب معرضها الذى يحتفي بثقافتها، ويعبر عن تقدمها. نهض نشاط المعرض على محورين أساسيين. كان طه حسين شخصية العام، حاضرا بفكره الإنساني وفكره الديني، واجتهاده نحو مستقبل الثقافة العربي، وأغلب ما انشغل به الرائد الكبير من قضايا، وكان في صحبته هذا العام 20 كتابا صدرت مواكبه للاحتفال به كشخصية للعام. رفع المعرض شعار "الثقافة والهوية" وطرح سؤاله الهام : هل يشعر المصريون فى هذا الوقت المراوح بين الاحتمالات بتهديد لهويتهم ... وهل يقاوم المصريون بإرادة ما يفرض عليهم من هويات يحاول فرضها جماعات الإسلام السياسي في شكل هوية أممية؟ كما ازدحم المعرض بتنوع الندوات، واللقاءات الفكرية، والحوارات مع من يمارسون السياسة. وكانت هناك ندوات حول "الوعي الثقافي ومقاومة الإرهاب . وندوة هامة عن كتاب "إصلاحات في جامعة الأزهر" لفرانسيس كوستيه تارديو. وكانت المناقشات حول إنتاج مشروع "القراءة للجميع. كما كان هناك حضور لافت لمناقشة قضايا المرأة العربية ومكافحة الإرهاب، ودور المرأة في ثورة 25 يناير و 30 يونيه. كانت الكويت ضيف شرف المهرجان. وحضرت بدورها الفاعل في الثقافة العربية، ومبدعيها الكبار: محمد الرميحى واسماعيل فهد اسماعيل وليلى العثمان وطالب الرفاعي وبعض الشعراء الكبار. كما كانت المقهي الثقافي بما قدمته خلال أيام المعرض أحد الوسائط الهامة لربط الزائرين بنشاط المعرض. واستعادة للراحلين. ندوة عن نجيب محفوظ ومطبوعته الدورية التى تواكب الرجل، كاشفة عن أسراره وإبداعه. وكانت ندوة عن الراحل الكبير رائد كتاب جيل الستينيات عبد الفتاح الجمل، ومناقشة لروايته الاستثنائية "محب" . فى الليل حين تغلق أقسام البيع أبوابها، تنفتح قاعات الشعر العربي حيث يصدح الشعراء بجديدهم. فى الليل يواجه الشعر العنف. العنف الذى يعتمد على تأويلات المنحرفين. والشعر عند بعضهم أن لا شيء يعوضه إذا انقرض انقرضت الإنسانية. وآخر الليل يتحلق أطفال العرب حول المصابيح، يفتحون أغلفة ما اشتروه من كتب، يتأملون الصورة ، وحرف الهجاء بفرح المعرفة، يصغون لصوت أمير الشعراء أحمد شوقي: قادما من الماضي أنا من بدل بالكتب الصحابا لم أجد لى وفيا إلا الكتاب