أصبحت الجغرافيا بما عليها من بشر في مجتمعات الشرق الأوسط متهمةً بكونها صانعةً ومصدرةً للأزمات التي طفحت على السطح، على خلفية الثورات العربية، لتخرج كل شرورها في وجه الجميع. فمن هم الفاعلون في هذه المنطقة؟ هل هم البشر الذين قاموا بالثورات ولكنهم لم يمسكوا بنتائجها التي ذهبت إلى أيدي الآخرين، أم أن دول الجوار الإقليمي والقوى الدولية بمصالحها هي التي تحرك هذه التفاعلات، أم هي الأيديولوجيا - أياً كان شكلها - المحددة لهذه الصراعات، أم هي أزمات التنمية والتحديث التي أفقدت هذه المجتمعات الرؤية والطريق لتحديد الأولويات التي يحتاج إليها البشر، ما أدى إلى حروب الجميع ضد الجميع؟ كانت هذه الرقعة الجغرافية في الماضي البعيد مهد الحضارات الإنسانية، فضلاً عن كونها مهبط الديانات السماوية الثلاث، فماذا حدث لها اليوم لتكون بمثابة شوكة في ظهر الحضارة الحديثة، بعدما تحولت إلى بيئات حاضنة للحروب بأشكالها المختلفة على مدار الأربعين سنة الماضية، ولتخرج من بين أنقاضها أطوار مختلفة من الإرهاب، بدءاً من الجماعات الإسلامية في مصر ومروراً بـ «القاعدة» في أفغانستان وتنظيم «داعش» الآن، الذي أخذ شكلاً جديداً جمع فيه ملامح الطورين السابقين باستهدافه الإنسان بحضارته، حتى لم يعد أحد يتوقع أين ومتى وكيف تحدث عملية إرهابية يقوم بها هذا التنظيم من طريق المتعاطفين معه والمنتشرين في شكل معولم في كل هذه المجتمعات؟ فهل تفشي التطرف والإرهاب في هذا الشكل في عقول الشباب الذي لم ينشأ بالضرورة في بيئة إسلامية، وإنما قد يكون مولوداً في قلب مجتمعات غربية مثلما نرى في فرنسا وأميركا وبلجيكا، مرتبط بأزمة عقل؟ أم أنها أزمة مضمون ديني يأبى أن يتطور في شكل طبيعي مع المتغيرات التي تحدث في المجتمعات، فكان هذا الصدام في هذا الشكل المتوحش مع الحداثة والإنسان؟ ولماذا برز كل ذلك عقب ثورات الربيع العربي؟ فهل كانت كل هذه الشرور نائمةً تحت غطاءات خادعة؟ هذه المنطقة بما يحدث فيها ستذكر في التاريخ، ليس بحضاراتها القديمة ولا بكونها مهد الأديان، وإنما بكونها باتت العدو الأول للحداثة والحضارة والقيم الإنسانية بما يخرج منها من حروب أهلية ولاجئين وإرهاب يطاول ضرره الجميع. وإذا كانت عقلية البشر الذين يعيشون في هذه المجتمعات في هذا الشكل، فإن الحروب وتفكك المجتمعات نتائج حتمية، إلا أن الوجه القبيح للصراع على المصالح ما بين الدول حاضر بدوره في شدة في بؤرة الصراعات والحروب في المنطقة، فلا يمكن فصل ما يحدث في سورية عن صراع المصالح، سواء عند إيران أو عند تركيا، فهاتان الجارتان تدعم كل منهما فصيلاً على حساب الآخر، فالأولى تدعم رأس الدولة حتى لو تطلب الأمر منها أن تتدخل عسكرياً، والثانية تدعم المعارضة مادياً ولوجيستياً بفتح حدودها لكل عابر من أراضيها جاء ليحارب نظام الأسد، ليخرج من بين هذه الأنقاض تنظيم «داعش» الذي يحارب الجميع، بمن فيهم من سهل له الدخول عبر أراضيه. أصبحت الأيديولوجيا تحارب ومن خلفها مصالح الدول الأخرى. إلا أن ما يغيب عن الجارتين اللتين تمدان ذراعيهما داخل المنطقة العربية، هو أن نيران الفتنة والحروب التي تعملان على إشعالها واستمرارها قريبة منهما، تصيبهما أوّلاً، فها هي تركيا تُضرب في مطاراتها وفي ميادينها بتفجيرات «داعش»، وها هو الوضع داخل أراضيها بدأ يأخذ منحى معاكساً للديموقراطية بعد الانقلاب الأخير. فالحزب الحاكم في تركيا بات في مأزق عندما أغرت السلطة والأيديولوجيا الدينية التي نجحت داخل المجتمع التركي، رجب طيب أردوغان، فأراد لها أن تنتشر في دول الجوار العربي. إلا أن هذا التوجه في السياسة الخارجية بمجرد أن أخذ بعداً عملياً، بدأت الكوارث والأزمات تحل بالدولة التركية، بدءاً بمظاهرات ميدان تقسيم، مروراً بالدخول في أزمات حقيقية مع دول الجوار. فالخطر القائم على الحدود لم يعد فقط متمثلاً في الأكراد، وإنما في تنظيم «داعش» الذي تم الرهان عليه ليوقف حراك الأكراد، إلا أن العكس هو الذي حدث بأن قوي الاثنان معاً. وبدل أن تكون المنطقة عمقاً استراتيجياً للنظام التركي مثلما كانت قبل ثورات الربيع العربي، تحولت إلى بؤر تهديد له ولعقيدته السياسية. السيناريو نفسه، وإن اتخذ شكلاً مختلفاً، ينطبق على الجارة الأخرى إيران التي تحركها أيضاً الأيديولوجيا والمصالح لتقف برجليها في كل من العراق وسورية في هذه الحروب الأهلية، وبدل أن تكون عامل حل واستقرار تكون زارعةً للفتنة والحروب الأهلية، على أمل بكسب هذا الجوار الجغرافي، سواء في شيعة العراق أو في الأقلية العلوية التي تحكم في سورية و «حزب الله» في لبنان. أما بالنسبة إلى المظلة الكبرى لتفاعلات الدول في المنطقة، فتحركها أيضاً الأيديولوجيا والمصالح، فالتواجد الروسي في سورية لا يخرج عن صراع معسكرين طالما تصارعا في الحرب الباردة ما بين أيديولوجيتين رأسمالية وشيوعية، فها هما يجدان نفسيهما وجهاً لوجه مرة أخرى، سواء بطريق مباشر أو من طريق وكلاء في المنطقة. ولم يقتصر الصراع على هذا الجانب، بل تعداه في تأثيراته إلى المجتمعات الغربية. فـ «داعش» الذي نما من داخل أنقاض هذا الصراع بات وجبةً متكررةً في جرائمها في الغرب من طريق المتعاطفين مع هذا التنظيم، وأصبح كل مسلم مقيم في الغرب محل احتمال لأن يكون «داعشياً». فما هو المنتظر في المستقبل لشكل هذه المجتمعات في الشرق الأوسط؟ هل ستستقر أم أنها ستستمر في حروب الأيديولوجيات الدينية وحروب الصراع على المصالح والجغرافيا بتداعيات مشكلاتها التي تطاول الجميع، وإن بعَّدت الجغرافيا المسافات. إنه حقاً شرق أوسط مثير للاندهاش!