يأسرني الذين يشبُّون في طاعة الله وبقربه ومعه؛ فهم الأنفَس والأندر في هذا العصر الذي تلفُّه الأفكار الحادة، والمواقف المتشنجة التي رسَّخها الإخوان عن الحكومات والشعوب الطيبة؛ الذين يشبُّون ويكبرون في طاعة الله هم دائماً صُناع الحياة الرحبة المستطابة، فجئني بمثلهم حينما تبتئس الشعوب ويتشنج الوعاظ، ويهيمن الصوت الواحد، ويفرض سطوته لا صحوته على الجميع.. ثمة أمر مدهش في سير الغائبين أو المغيبين عن الحياة العامة والجماهير؛ ففي العادة ينقسمون إلى قسمين لا ثالث لهما بعد كل عودة، وتأكدوا بأنفسكم: قسم يعود مكفهر الوجه، ويحافظ على نفس الطباع السيئة وربما العاهات والمصائب التي ذهب بها، وقد يتحول الغياب بحد ذاته إلى نكسة مستديمة لا يرفعها إلا الموت، وهؤلاء أصلاً ضعفاء التكوين ومن السهل كسرهم وطرحهم وقسمتهم على أقرب سارية فشل، وقسم آخر يعود مشرق الوجه ورائق الكلمات ونفسه مفتوحة على الحياة وملذاتها وقصورها وفضائياتها، وهؤلاء هم من يستفيد فعلاً من التجربة، ومن يستطيع قياس المسافة بين ما كان وما سيكون، وأبرز هؤلاء عايض القرني شيخاً وإنساناً وجنوبياً طيباً استوى على لفح المحن والبلايا، وحينما عاد بعد غياب اكتسح الوعظ والتأليف والكتابة والظهور الإعلامي المكثف بشغف كبير ورضا واضح.. لا يوجد شيخ سعودي من كل الذين غابوا أو غُيبوا ــ مهما كانت الأسباب ــ استفاد من تجربة الاستجمام المعتادة مثل استفادة الشيخ عايض القرني؛ لقد غاب وهو واعظ فقط، وحينما عاد أضاف إلى الوعظ شهادة الدكتوراة والتأليف والكتابة الصحفية وعشرات البرامج التليفزيونية؛ بل وحتى كتابة الأغاني / الأناشيد الإسلامية، وربما لو لم يغب بتلك الطريقة لما اكتسب كل هذه الهمة والنشاط، وهذا الإصرار العجيب على الحضور في كل مكان.. لم يبق إلا النشرة الجوية يا شيخ عايض!! قبل عشرين عاماً كان ليوم السبت حكاية أسبوعية رائقة لدى أهل أبها؛ أغلبهم كان ينتظرها بلهفة، وهناك من كان يراها سحابة صيف سرعان ما تزول، وأياً كان موقفك من الشيخ عايض القرني في تلك الفترة، وما كان يقوله في محاضراته الأسبوعية في جامع أبي بكر الصديق بحي المنهل؛ إلا أنك لا تملك إلا أن تحترم ذلك الشاب المكافح وصاحب القلب الأبيض الذي كان يستطيع جمع مدينة كاملة على أروع كلام، وحينما اتسعت رقعة المريدين وأزعجت شهرة الشيخ بعض المجاورين، وأتى الزمن الطبيعي الذي تذوب فيه فرامل كل من يخاطب الجمهور بحرية؛ كان لابد من مراجعة واجبة النفاذ تعيد ترتيب الأفكار والمواقف، وقد كانت عشر سنين حافلات بالقراءة والتأمل أوجدت لنا عائضاً آخر يقوده العقل لا العاطفة، ويعرف تماماً سبل الغزو الآمن شعبياً ورسمياً بمنتهى التصالح وسعة الأفق.. في ليالي أبها تلك كان للشيخ عايض القرني عشرات الأصدقاء الخُلص الذين رسموا على جباههم أمارات الصلاح والتقوى وحاولوا مشاركته النجاح والشهرة، ولكنهم تركوه وحيداً حينما غاب لإصلاح الفرامل، ولا ريب فالمواقف تعلِّمك معادن الرجال، وتجعلك تستمد من نذالة بعض الرفاق وقود نجاح، وها هي الأيام تثبت أن الذين وقَّعوا على فرمان الغياب لم يغادروا زمن التواقيع إلى اليوم، ولا يمكن أبداً حساب المسافة بينهم وبين الشيخ لطولها وتشعبها، وكلٌّ ميسر لما خُلق له. بعد عشر سنين من الغياب الذي جاء بأعظم الفوائد؛ أصبح الشيخ عايض مأموناً جداً على الجماهير، أصلح الفرامل وبدأ يطمئن على جودتها قبل كل محاضرة ودرس وكتاب وبرنامج تليفزيوني، وهو اليوم يكاد أن يكون نسخة محلية من الشيخ علي الطنطاوي رحمه الله؛ مع زيادة في الحفظ، وتلقائية في الطرفة، وإن عيب عليه هذا الحضور المكثف، فلأنه يبدو في حالات كثيرة لمتابعيه وكأن له علاقة بكل شيء، وليس له علاقة بأي شيء!! جمهور الشيخ عايض لا يفكرون أبداً في أي حزام ناسف، أو نصرة خارجية على حساب وطن؛ هم مثل شيخهم يطربون لكلمات الصلاح والتقوى، ويتذوقون نظم الفقهاء وطرائفهم ثم يعودون إلى منازلهم ولديهم دائماً متسع من الأمل، وفي أحلامهم تعايش عاقل مع كل المختلفين طالما أن سجادة الصلاة تجمع كل الفرقاء في نهاية الأمر.. سامحوني لا أستطيع أن أرى الشيخ عايض القرني إلا راوية أدب من طراز رفيع؛ أما الوعظ فتلك قصة مشاعة يستطيعها كل أحد، ولو لم يكن الشيخ عايض واعظاً لكان أديباً بامتياز، ولو لم يتعلم عاهات النظم من مجتمع الوعاظ لكان شاعراً تقياً تسير بشعره الركبان. * الجمعة المقبلة: كاسر الأغلال