×
محافظة المنطقة الشرقية

«سيرة لوحة» غدا بـ«فنون الدمام»

صورة الخبر

السياسة مجال لا دخل فيه للمطلقات ولا المثاليات ولا الينبغيات ولا التفكير في المجهول. فالسياسة في أهم معانيها، هي فن الممكن، أقصى الممكن، ضمن حدود القدرة والاستطاعة، والظروف المتاحة، والإمكانات المتوفرة، والواقع المتعين، وقابليات الإنجاز. فالسياسة هي الإمكانات المتاحة على الأرض، ليست الإمكانات المتوهمة أو المظنونة، ولا في الخيال، ولا في الأماني والأحلام: فلا مجال في السياسة للتحليق في فضاءات المثاليات، ولا كلام في الهواء الطلق من دون أدنى مسؤولية عن تبعاته. وليس في السياسة خضوع لكامل المنطق قانوني النظري الذي يدرس الصور والأنماط المثالية، وما ينبغي أن تكون عليه الأمور. فالسياسة هي اجتهاد (شريطة أن يكون من أهله وفي محله) لا حق مطلق فيها ولا باطل مطلق، من دون تصور إمكانات تحقيق الأول ومواجهة الثاني، وما يترتب على التحقق والمواجهة من أمور وتداعيات وتبعات. السياسة هي واقع متعين من حيث هو محل الحدوث والتفكير والتعامل والعلاقات. والسياسة إجراءات وخطوات عملية وتراتبية في آليات صناعة واتخاذ القرار ومراحل تنفيذه. والسياسة احتمال لا يقين معه، وظن غالب لا تأكيد فيه، وغايتها إدراك نسب تحقق لمسارات وسيناريوهات لا قول فصل لها، ولا قول نهائي فيها، ولا قول واحد لا يحتمل الواقع سواه. أقصى ما فيها هو تفاوت نسب تحقق المسارات والسيناريوهات، هذا إن بنيت السيناريوهات على علم صحيح، وواقع صادق، ومعلومات دقيقة. والسياسية هي فن إدراك ومعرفة والوصول إلى النقطة الحرجة أو نقطة التوازن التي تتعادل عندها الطموحات المرجوة مع الواقع المعقد. والسياسة بهذا المعنى قراءة دقيقة للواقع، وإدراك محيط بتفاصيله،وفهم شامل لتعقيداته. السياسة هي إدراك واجب الوقت، وأولويات المرحلة، وتقديم الأهم على المهم، وتأخير مواجهة ما يمكن تأخيره، وجوهر السياسة من هذا الباب هي علم تحديد الأهداف بدقة، وكيفية الوصول إلى تلك الأهداف ضمن سقف الموارد المتاحة، والزمن المسموح به لتحقيقها، وأنسب البدائل والخيارات لتحقيقها، في حدود سقف التكلفة (موارد وبشر) المتاح. (فموازنة الأهداف تقتضي موازنة التكاليف). والسياسة بهذا المعنى هي إدراك حساسية اللحظة التاريخية وما تحتمله من موارد ومسارات وما يمكن تحقيقه فيها من أهداف وطموحات، وما يمكن تجنبه فيها من أزمات وكوارث. فالسياسة واقعية لا مجرد مبادئ عامة، وقواعد مجردة،وهي مواجهة عملية للمشكلات التي يعيشها الناس لا مجرد شعارات تخاطب عواطفهم، وتدغدغ مشاعرهم. السياسة اجتهاد بشري يراعى فيه تقدير المصالح والمفاسد خصوصاً إذا تزاحمت وضاق الوقت والفعل، وتحددت القدرات والإمكانات، فيرجح الراجح منها ويراعى فيه طاعة الله، حسب الاستطاعة والإمكان. وبهذا المعنى،فإن جوهر السياسة هو دراسة القوة والنفوذ وتوزيعهما في الدولة والمجتمع. فلا رأي لمن لا يطاع، ولا تأثير لمن لا يحوز أدوات ووسائل التأثير، ولا نفوذ لمن لا يملك أدوات مخاطبة الجماهير، وكيفية تحريكها وتوجيهها. والسياسة بهذا المعنى إدراك لشبكات التحالف والصراع. والسياسة علم صناعة القرارات، وآليات اتخاذها، وطرق تنفيذها، وتحويلها من أفكار في عالم المثال إلى واقع متعين على الأرض. والسياسة هي مساومة، وحلول وسط، والتقاء في منتصف الطريق، وتقديم شيء من التنازلات لتحقيق مصالح أعلى، وهو المقصود بقول ابن تيمية تزاحم الواجبات والمحرمات. يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: «وتمام الورع أن يعلم الإنسان خير الخيرين وشر الشرين... وإلا فمن لم يوازن ما في الفعل والترك من المصلحة الشرعية والمفسدة الشرعية فقد يدع واجبات ويفعل محرمات» (الفتاوى 10/512). ونختم بهذه المناظرة التي جرت بين أبي الوفاء بن عقيل وبعض الفقهاء في معنى السياسة، ونقلها ابن القيم في كتابه إعلام الموقعين: قال ابن عقيل: العمل بالسياسة هو الحزم، ولا يخلو منه إمام. وقال الآخر: لا سياسة إلا ما وافق الشرع. فقال ابن عقيل: السياسة ما كان من الأفعال بحيث يكون الناس معه أقرب إلى الصلاح وأبعد عن الفساد، وإن لم يشرعه الرسول صلى الله عليه وسلم، ولا نزل به وحي; فإن أردت بقولك «لا سياسة إلا ما وافق الشرع» أي لم يخالف ما نطق به الشرع فصحيح، وإن أردت ما نطق به الشرع فغلط وتغليط للصحابة. (إعلام الموقعين، ج4، ص372). والسياسة في جوهرها هي القيام على الشيء بما يصلحه. amr_doc_oo@yahoo.com