الإجازة الطويلة عن الدراسة هدر كبير لطاقات عدة, أولها الوقت ومقدراته, والهمة البشرية التي يشحذها التلقي وزيادة المعارف, وديمومة السكب, ومواصلة الاكتساب، فالراحة عادة مضيعة وتبديد لكل ذلك, وانقطاع الفكر عن تواصل المعلومة يقضي على تماسكها, وحبكها. وقد تمادت الإجازات في نظامنا التعليمي الأمر الذي يقلل من خبرات الجيل, ويرهل معلوماته, ولا يجعل بناءه المعرفي متيناً متجدداً متدفق الأخذ والتبادل. إن العرب الذين صنعوا مجد الفكر وصنفوا بدائع العقل, ورسموا خيوط الدروب وعَلِموا وعلَّموا, واكتشفوا ومهدوا كانوا يترحلون المسافات الطويلة من أجل الوقوف على معلومة, أو تصويبها, وإن كانت حركة في كلمة, أو دليلاً في حديث, أو خبراً في سيرة. لم تكن زُوَّاداتهم تفرغ من المداد, والريَش, والورق, وما كان همهم الأول التسوق, ولا التنقل من مطعم لآخر, بل يبيتون جياعى لكن عقولهم مشبعة, وإن كانت عيونهم على ضوء شمعة ترنو لأثر, أو تسفر عن شاردة, أو تحظى بواردة. الوقت أبُ القيمة لسكناتهم, وغاية جهدهم, وأبعاد طموحهم, وسعيهم الحثيث للإنجاز, والاستزادة. هم المتعلمون المعلمون وإن كانوا أدباء, أو علماء, أو مصنفين, يأخذون من بعضهم, ويودعون لبعضهم, كانوا أرباب المدارس, وقادة التعلم الذاتي والتعليم, وطلاب المعرفة, وصانعيها, ومؤدبي الناشئة, من أثروا التراث بمعارفهم ولا يزال المرجع, بفيضه المسطر, وأثره المشرق المنوَّر. فما الذي يقدمه المتعلمون, والمعلمون المفرغة أوقاتهم الآن الذين توقفت بهم الإجازة عن تعليم, أو تعلم..؟ إن منهم من يبتهجون بالدعة يشكون هم الدراسة, يتأففون من واجبات العمل, ينتحلون ثياب المرهقين, اللاهثين للراحة المنتظرين تمديد الإجازة, على الرغم من أن العمل يُولِّد النشاط, والتعلُّم يفعل أكثر, ومع أن المدرسة بيت اليقظة, والوسائد مدفنها, فإن الإجازات الطويلة تُفتر الهمم النشطة, وتنوِّمها, وتشظِّي المعلومة وتذرُّها مع هواء اللهو, وعبث الوقت, وفراغ الفراغ! أربعة أشهر من السنة والدارسون في لهو, وفراغ, إلا منهم من قيض الله لهم آباء واعين, ومقتدرين في آن, قاموا بالتخطيط، والأخذ بهم نحو شغل أوقاتهم في هذه الشهور الأربعة بعلم نافع, وتدريب مجد, واكتساب ذي أثر, وإنجاز مجد لكن أولئك قلة لا كثرة! إن وزارة التعليم مسؤولة بشكل مباشر عن الجيل, في مراحله المختلفة نحوا يتعلق بتقدير الوقت, وبمكاسبه المعرفية, وخبراته العلمية, وتجربته في الاكتساب, والتحصيل, والتعرض لما يدور في واقعه, وتشكيل بنائه بأركانه العلمية, والفكرية, والثقافية, والسلوكية, وما يتعلق منها بكل تفاصيلها وتفريعاتها. وابتكار السبل, والطرق, والمنافذ لتحقيق ذلك وتطبيقه في واقعهم, ولا يتحقق ذلك بإغلاق أبواب الفصول الدراسية, والمختبرات, والمكتبات, بإغلاق المدارس لأربعة شهور عدا ورقما, ثوانيَ ودقائقَ, وساعاتٍ, بكل نهاراتها التي أهدرت, وشموسها التي حُجبت, إذ تبقى الأنشطة البديلة التي أتيحت لهم قيد الخيار لا الواجب..!! وإن كانت هناك حجة لطول هذه الإجازة وهي التدوير الزمني, وانتظار إعادة هيكلة السنة الدراسية, لكن لا عذر للهدر, ولا حجة للفراغ..! الوقت كان يقول الفاهمون عنه إنه «مِن ذَهب, سيفٌ إن لم تقطعه قطعك».. فكم هم ضحاياه خلال الأربعة شهور التي مضت من أبناء هذا الجيل, فيما هم في أمس الحاجة لبناء ما هو رخو في مكنونهم الفكري, والعلمي, والمعرفي, والثقافي مما يمكن أن يندرج تحت مهام «التعليم بمؤسسته الضخمة..؟!! اليوم يعودون للمدارس, ينفضون عنهم الألحفة, ويشمرون السواعد, فعسى أن يوفقهم الله, ويوفق لهم مؤسسة التعليم لترتق ما انشق في نسيج خبراتهم أربعة شهور مضت.!!