×
محافظة المنطقة الشرقية

الصالح... وحقائب «الوزن الثقيل»! - اقتصاد

صورة الخبر

د. نسيم الخوري يكفي النظر إلى علم لبنان تتصدّره الأرزة لنفهم أو نتذكّر معنى هذا الاختيار الزراعي الذكي، ومعانيه وأبعاده، ولو أنّ اللبنانيين قد فقدوا الكثير من فطانتهم وجاذبيتهم عبر السياسات، التي يشوبها الارتجال والكيد إلى درجة جعلت معظم السياح والأشقّاء في بلدان الخليج والعالم يعرضون، والشوق واللهفة تغالبهم إلى فيء الصيف وعذوبته وجمالياته في لبنان الأخضر، أعني لبنان الشجرة الخالدة. هل تشبه الدول الأشجار؟ بالطبع. من اللحظة التي ترمي فيها ببذرة الخردل لا بشتلة الأرز مثلاً، وحبة الخردل هي أصغر وأدقّ بذرة في الأرض، فإنّها مهدّدة بألاّ تنبت دون توافر الماء والهواء، وهي مهدّدة بأن تسحبها نملة أو حشرة تقرضها فتحرمها من الحياة. وإن توافّرت لها ظروف الحياة، وانبثقت ورقة خضراء، فهي مهددة بأن يقضمها عصفور أو حشرة أو تدوسها أرجل حيوان عابر، ولكن إن تجاوزت هذه المرحلة، واندفعت نحو فوق، تبقى مهدّدة بأن يقتلعها عابر سبيل، ليسند بها غرسة أخرى أو يكسرها راع يهشّ بها على غنمه أو ليضرب بها حيواناً شارداً. لو تأمّلنا حياة الأشجار المعمّرة التي تتجاوز بكثير أعمار البشر والدول لوجدنا كنزاً من المعلومات والعبر والدروس في البيولوجيا التي في الأغلب ينساها الناس فلا تعنيهم. يتفيؤون بظلالها ويمرّون من تحتها، وقد يفرّغون جذوعها إلى حدود أن تمرّ السيارات فيها وتحتلّ صور الإعلانات في العالم، حيث تشقّ الأوتوسترادات ذهاباً وإياباً في جذع الشجرة، لكنهم قد لا يلتفتون أو يتذكّرون كم قاست تلك النبتة أو البذرة قبل أن تعمّر وتضرب جذورها في أعماق الأرض وأغصانها الضخمة في الهواء من رياح وتبدل في المناخ وعذابات واعتداءات قبل بلوغها تلك المرحلة. لماذا هذه المقدمة البيولوجية؟ لأنّ سياسياً فرنسياً معادياً لسوريا جادلني بسؤال: هل تستطيع أن تنبت نصف حبة من الفول أو العدس، ولو رويتها مئة عام؟ قلت: لا بالطبع، ولكن لماذا هذا السؤال؟ أجاب: لأنه رغم التجاذبات التاريخية التي كنتم تشهدونها، وربّما تعانون منها في بلدكم بين النظامين السوري والعراقي، فإنّهما خرجا، كما تعرف، من بذرة واحدة أو فكرة واحدة بعثية وصلت إلى حكم للبلدين. الفكرة خرجت من هذا المقهى، الذي نحن فيه الآن في باريس على يد شلة صغيرة من تلامذة السربون. صحيح أنها جاءت من رحم يقظة الحركات القومية في أعقاب الثورات الصناعية في أوروبا، لكنها كما يبدو بقيت فكرة مستوردة عندما نقلت إلى تربتكم في بلاد الشام، حيث إنكم ما كنتم خبرتم الثورة الزراعية بمعناها الحديث بعد. حاولت المقاطعة، لكنه أكمل أن سوريا والعراق ولدا بالمعنى الحزبي والسياسي المعاصر من حبة واحدة بفلقتين، وابتعدا بفعل الضغوطات والممارسات السياسية المتباعدة عن الفكرة كثيراً. وماذا يعني ذلك قلت؟ أجاب: إنّ سقوط النصف الأول أعني العراق في الخرائب، سيؤدي قطعاً إلى سقوط النصف الثاني في التجربة عينها. حاولت المرافعة في ذلك الزمن، حيث كان البحث المعلن والسري ينصبان بحثاً عن الدولة التي إليها سينتقل الخراب بعد العراق: تركيا، لبنان أم غيرهما. يومها رحت أشرح لصديقي الباريسي بأنّ ستة عقود من العلاقات الأمريكية - السورية كانت حافلة بالصعوبات الشديدة التعقيد والازدواجيات، التي يصعب توضيبها في صفات محددة، وتعريفات دولية مفهومة. كان النظام السوري، خلال الحرب الباردة، الحليف القريب من الاتحاد السوفييتي، وقد استغرق الخطاب الأمريكي في نقد السلطة العراقية والسورية بما يبرزهما، بالعين الغربية، حيث وصفهما ببلدين يفتقران لأدبيات حقوق الإنسان، ويرفضان بعناد الحريات الأساسية والديمقراطيات التي تلهب شعاراتها الدول والأنظمة في العالم، وخصوصاً في الشرق الأوسط. حتى إن بوش الابن لم يدرج سوريا في محور الشر مثلاً، الذي وضعه كمؤشّرٍ لقرع أبواب المتوسط عسكرياً، فاعتبرها نموذجاً لما أسماه بالدولة المارقة أي بمعنى أنها الخارقة لقضايا كنا نفهمها بأنها تهدد المصالح الإسرائيلية والأمريكية، لكنّ سقوط البرجين في 11 سبتمبر/ أيلول 2001 كان ينطوي على سلسلة من السقطات جعلت من الطبيعي فهم العدائية حيال دمشق إلى درجة أنّ الأنظار، بعد سقوط بغداد، انتقلت حكماً إلى انتظار إسقاط نظام دمشق. ولمّا كان محدثي يصر على ربط السياسة بالبيولوجيا، راح يستطرد إلى تشبيه سوريا بالشجرة المعمرة بالمعنى التاريخي، التي تقرّر اجتثاثها، ورحت أجادله معتبراً أن هذه الفكرة تتناقض مع انخراط سوريا في بلدان التحالف الأمريكي ضد العراق في حرب الخليج الأولى في ال1991، بعدما كان كلينتون قد شارف على رسم مشروع سلام بين دمشق وتل أبيب في ال1990 أجهضته إسرائيل بسلبياتها المعهودة، وكان أول رئيس أمريكي يقرع باب حافظ الأسد لهذا الغرض في أكتوبر/ تشرين الأول 1994 بعد انقطاع دام نحو عشرين سنة بين الدولتين. وتتناقض أيضاً مع اندفاع سوريا لتقديم معلومات أمنية ثمينة للإدارة الأمريكية منذ سقوط البرجين في ملف ابن لادن، وفي ملفّات الإرهاب المتجوّل. وتتناقض، بهذا المعنى، مع تنفيذ واشنطن لتوصية فريق بحثي حول العراق نصح بالانخراط في حوار دبلوماسي مع دمشق دون أية شروط مسبقة. توصية دفعت بأربعة من أعضاء الكونغرس الأمريكي بزيارة بشّار الأسد في ال2006 تلتها زيارة مماثلة لنانسي بيلوسي رئيسة البرلمان في ال2007 على رأس وفد من سبعة برلمانيين من الحزبين الجمهوري والديمقراطي، بينهم: توم لنتوس وهنري وكسام المعروفان بتحيّزهما الفاضح لإسرائيل. وكانت النتيجة ردود فعل إسرائيلية لافتة تلحّ على انتهاج سياسة عدائية لا حوارية مع سوريا. وتدخلنا لعبة المحتججات والمتناقضات والازدواجيات أبداً إلى تقاذف الأفكار بعد تقدّم روسيا إلى الشرق من العتبة السورية، والتقرّب من إيران وتركيا الحائرة، والتغامز مع أمريكا إلى حدود الغموض، ودون التقصير في إظهار علاقة مع واشنطن متأرجحة بين التحالف أو التجاذب أو الانتظار الجدي لانتخاب زوجة كلينتون رئيسة لأمريكا.