تشكيل ثقافة واكتساب ثقافة أخرى ونقل ثقافة. كل هذا يأتي عبر اختلاط الشعوب ببعضها، وامتزاج الأشخاص ببعضهم فكريا واجتماعيا وميدانيا. كان الحج ويبقى رافدا مهما -إن لم يكن الأهم- من روافد الثقافة. الالتقاء الذي يضم خليطا متنوعا من كل أقطار المعمورة، يختلفون في اللغة واللون والشكل والمذهب. يجتمعون في بقعة واحدة. تمازج هؤلاء وتقبلهم الاقتراب من بعضهم. يوحدهم البياض والبياض فقط، يشكل ثقافة دينية واجتماعية وإنسانية. أهل مكة وفي كل الأزمنة التي مرت، تشكلت لهم ثقافة نوعية بفضل توافد الحجاج من كل أرجاء الأرض. تجد رجلا معمرا يجيد أكثر من لغة، وآخر يجيد عدة صنائع وحرف يدوية، وسيدة تتقن إعداد جميع أصناف الطعام من موائد مختلفة في العالم، وترتدي معظم الأزياء القادمة من خارج مكة. تأثير الحج بكل ما يحدث فيه من روحانية وعبادة وتعارف ومواقف، يحفّز على البحث عن ثقافة المكان وتاريخه وتاريخ أهله. إذ كانت هذه الرحلة بصرية وسياحية تؤتي الحاج والزائر فرصة تتبع تطور عمارة الحرمين الشريفين منذ اللبنة الأولى مرورا بالعصور السابقة، وصولا إلى مشروع ملوك المملكة المستمر في الاهتمام بالمشاعر المقدسة.المتتبع نظريا لتحول الثقافات ودخولها مع الحجاج وخروجها معهم إلى بلادهم، يؤمن بالاهتمام بالقيم الدينية والاجتماعية التي ستُصدر بطريقة أو بأخرى مع الحاج. وهذا المفهوم ملموس في أبناء مكة والمدينة. فطريقة تعاملهم مع الحجاج نابعة من إيمانهم بأهمية نقل صورة جميلة عن المكان والإنسان، إضافة إلى الخبرة التنظيمية، والإلمام بطريقة التعامل مع الحجاج صغارا وكبارا ومن مختلف الأقطار، وبهذا أصبحوا على مستوى عال من الحس الإنساني والوعي الأخلاقي. في تقرير سابق أعده الزميل محمود تراوري، ونشر في صحيفتنا "الوطن"، نقل عن الروائي الفرنسي "مارسيل بروست" ورد قوله: "ليس للحج في واقع الأمر طابع ديني فقط، بل هو مهرجان حقيقي تعقد فيه الصفقات التجارية، وفي غالب الأحيان تناقش فيه القضايا..". أتفق مع "بروست" في أن موسم الحج فرصة لانتعاش الحركة الاقتصادية، وكثير من القضايا تطرح وتناقش ويتم علاجها في مثل هذه الأيام، وأستطيع القول، إن الحج هو المنصة الأولى لالتقاء كثير من الشعوب وخلق أبعادها الإنسانية وتناغمها، لذلك نرى المختلف مع التوجه السلمي الحواري، يبتعد عن هذه المنصة السلمية، ويحاول تشويهها وتعطيل نجاحها، بما يتعارض مع أهداف تجمع الحج النبيلة.