لمن لا يعرف، فغروزني مدينة صغيرة في إقليم الشيشان الذي يُسمَّى جمهورية ذات حكمٍ ذاتي في روسيا الاتحادية. وقد قامت ثورة على الروس في الإقليم عشية سقوط الاتحاد السوفياتي، سعيًا للحصول على الاستقلال. وبعد سنواتٍ من الكر والفر واتفاقيات الهدنة، جاء بوتين فهدم المدينة على من تبقى من سكّانها، وعيّن رئيسًا للجمهورية من أنصاره، وعندما قُتل في انفجار دبّره الثائرون، استخلف الرئيس بوتين ابنه رمضان قديروف عليهم، وما يزال! لقد اعتاد رئيس الشيشان المروسَن أن يعقد مؤتمرًا كل سنة أو سنتين في ذكرى والده، وأضاف في مناسبة هذا العام، افتتاح مسجدٍ ضخمٍ دعا إليه عشرات من العلماء والوجهاء المسلمين من بلدان العالم الإسلامي وأوروبا. وهذا أمرٌ يبدو عاديًا حتى الآن، وليس في القوقاز فقط؛ بل وفي سائر جمهوريات آسيا الوسطى، التي ما يزال يحكمها بعد استقلالها عن روسيا زعماء الأحزاب الشيوعية في زمن الاتحاد السوفياتي أو أولادهم وأحفادهم. ففي هذه الجمهوريات أيضًا تنعقد مؤتمراتٌ إسلامية يُدعى إليها محترفو حضور المؤتمرات من العرب والمسلمين، حيث يجري امتداح التصوف والاعتدال، والمذاهب الفقهية التقليدية المسالمة، باعتبار أنّ معارضي الأنظمة هناك، بينهم إسلاميون متشددون من السلفيين وحزب التحرير وأشباه الإخوان. إنّ غير العادي في مؤتمر قديروف لهذا العام، ليس عدد الحاضرين وأهميتهم الرمزية فقط، بل والموضوع الذي طُرح للبحث في المؤتمر، وكان على المُحاضرين والمستمعين الإجابة عنه، وهو: مَنْ هم أهل السنة والجماعة؟! وهكذا اجتمع إلى المكان غير الملائم والزمان غير الملائم، الموضوع غير الملائم أيضًا! إذ كلُّ الفِرَق الدينية الإسلامية تمتلك إعلانات عقدية خاصة ومُلْزِمة لأتباعها، أو «قانون إيمان» شأن الكاثوليك والأرثوذكس ودياناتٍ أُخرى - إلاّ أهل السنة والجماعة، وهم جمهور المسلمين، الذي يشارك الآخرين في العقائد العامة: الوحدانية، والنبوات، واليوم الآخِر. ولا يعني ذلك أنه ما كانت هناك محاولاتٌ لدى أهل السنة للتحدُّد أو التمايُز العَقَدي، وبخاصة أنهم اختلفوا كثيرًا مع المعتزلة ثم مع الشيعة (في مسألة الإمامة، التي كان الشيعة يعتبرونها ركنًا من أركان الدين، بينما يعتبرها أهل السنة أمرًا تدبيريًا واجتهاديًا وليس تعبديًا). بيد أنّ سياسة الإعلانات الاعتقادية المعروفة لدى الفِرَق التي كانت تحاول التمايُز عن أهل السنة، ما لقيت نجاحًا كبيرًا لديهم، بسبب طبيعتهم الاستيعابية، وإلاّ فكيف صاروا كثرة ساحقة بين المسلمين، أو السواد الأعظم، أو الجماعة الجامعة، في الأثر الذي ترويه كتب السُنن عن عددٍ من الصحابة. وقد سدَّ الإمام أحمد بن حنبل الطريق على مَنْ يحاولُ التمايُز أو التكفير والإقصاء بقوله: المسلمون على ظاهر الإسلام، ولا نكفّر أحدًا بذنب، ونصلّي وراء كل إمام، ونجاهد مع كل أمير. فهل صحيح أنّ الرئيس قديروف كان مهمومًا بتحديد اعتقاد أهل السنة لإلزام شعبه به مثلاً، ولذلك دعا إليه «علماء» لإصدار بيانٍ بشأنه؟ بالطبع لا، وإنما كان المقصود إقصاء السلفيين من الإسلام، وحصره بالأشعرية (وهي المدرسة العقدية التقليدية لمعظم الشافعية والمالكية) والماتريدية (وهي المدرسة العقدية لمعظم أتباع المذهب الحنفي). وفي فقرة أُخرى من ذاك البيان الخالد أضاف هؤلاء المتفقهة: الصوفية، وأتباع المذاهب الفقهية الأربعة. والواقع أنّ كلَّ هذه التحديدات صارت من الزمن القديم، الذي لا علاقة له بالواقع؛ إذ إنّ المتدينين الذين شدوا شيئًا من العلم، تبلغ نسبتهم بين المسلمين اليوم بين 65 و70 في المائة، وثلثهم من السلفيين، إن لم يكونوا أكثر. وبين المتشددين الذين يكفّرون أو يميلون للعنف، كثيرون يعتبرون أنفسهم سلفيين، لكنّ هؤلاء بلاءٌ على السلفية قبل غيرها، وما ذكرتُه عن أحمد بن حنبل إمام السلفية الأول هو أفضل الردود عليهم. فخُلاصة الأمر أنّ قديروف ومن كتب له البيان، ليسوا مهتمين لا بأهل السنة ولا بالإسلام؛ بل هم مهتمون بمصارعة خصومهم على السلطة في الدنيا والدين. إنّ موضوع المؤتمر غير ملائم إذن، بل ينمُّ عن سوء نية وسوء تقديرٍ كبيرٍ. وأنا خائف بسبب الضغوط الهائلة التي يتعرض لها المسلمون والإسلام - أن يستسهل أهل السوء والضغائن اصطناع إسلاماتٍ جديدة للفتنة من جهة، وللاستنامة للحاكمين ومنافقتهم من جهة أُخرى. فهذا الإمام الأشعري (- 324هـ) الذي ينسبون أنفسهم إليه، كان يعتبر نفسه حنبليًا، وقد قال في مطلع كتابه «مقالات الإسلاميين»: «اختلف الناس بعد نبيهم صلى الله عليه وسلم في أشياء كثيرة ضلّل فيها بعضهم بعضًا.. فصاروا فرقًا متباينين... إلاّ أنّ الإسلام يجمعهم ويشتمل عليهم».. وإذا كان الموضوع غير ملائم لأنه يشرعن للإقصاء بداخل الإسلام، ويصطنع قانون إيمانٍ غير موجود، فإنّ المكان غير ملائم. فبلاد الشيشان التي تستحقُّ كلَّ تضامُنٍ معها فيما أصابها من خراب على يد الروس (يشبه ما يفعلونه الآن في سوريا)، لا حرية فيها ولا بيئات تسمح بمناقشة الاختلافات بين المسلمين وهي موجودة غير خافية. ثم أين نحن من ديار الإسلام الكبرى المؤهَّلة لمناقشة الاختلافات وتصفيتها لصالح الجماعة، ووحدة كلمة المسلمين. ثم إنّ الزمان غير ملائم بتاتًا وليس المكان فقط. فالزمان زمانُ الحملة على الإسلام في سائر أنحاء العالم. والمطلوب منا التسليم، ليس بهذا التوجه السياسي والاستراتيجي بالذات، بل وأيضًا بالتحديدات التي يطلقونها لما يعتبرونه: «صحيح الإسلام». قال الأميركيون (والآن يقول الروس والصينيون والهنود) إنّ المتطرفين المسلمين اختطفوا الإسلام وعلى المعتدلين استعادته قبل فوات الأوان. وقد اختاروا لنا الحلَّ الصوفي السحْري لنحاول به بمعونتهم القبض على روح الإسلام المتوفزة. وها هم الروس يعرضون علينا اعتقادات الماتريدي والأشعري للخلاص من الإرهاب، مضافًا إليهما الجنيد الصوفي السالك! ولنذهب من الجانب المظلم من الصورة إلى الجانب المضيء. لقد كان المقصود استبعاد السلفية وإقصاءها، والنيل من سمعة المملكة العربية السعودية باعتبار سواد التوجه السلفي فيها. وهو الأمر نفسه الذي فعله الخامنئي أيضًا في حملته على المملكة على مشارف موسم الحج. وعلى ذلك كله أجابت الأمانة العامة لهيئة كبار العلماء في بيانٍ جامعٍ جاء في مطلعه: «إنه في محكم كتاب الله عز وجلّ وسنة رسوله محمد أنه لا عزَّ لهذه الأمة ولا جامع لكلمتها إلاّ كتاب الله وسنة رسوله».. وتابع البيان: «أمة الإسلام أمة واحدة وتفريقها إلى أحزابٍ وفرقٍ من البلاء الذي لم تأت به الشريعة». و«ليس من الكياسة ولا من الحكمة والحصافة توظيف المآسي والأزمات لتوجهات سياسية».. فإن لم يكن هذا التوجه هو الإسلام الخالص، فماذا يكون؟ إنني أفهم أن يحاول قديروف تحسين صورته في العالمين العربي والإسلامي، لكن الذي لا أفهمه أن يسير في ركابه أُناسٌ منا على حساب دينهم وأمتهم.. ويا للإسلام!