حدثان بارزان شهدهما المشرق العربي خلال الأسبوع المنصرم على صلة بالصراع المحتدم بين النفوذ الإيراني الزاحف وبين ما تبقى من حريصين على الهوية العربية للمنطقة. الأول هو بدء عملية التغيير الديموغرافي علنًا في محيط العاصمة سوريا دمشق وإكمال ما كان مخفيًا منها في محيط مدينة حمص. والثاني هو جولة وفد الحوثيين اليمنيين - غير المكتملة لتاريخه - على «رفاقهم» أصدقاء إيران وأتباعها في المنطقة. هذان الحَدَثان يقطعان الشك باليقين إزاء ما سماه ملك الأردن عبد الله الثاني ذات يوم «الهلال الشيعي»، وما عزّزه الرئيس المصري الأسبق حسني مبارك لاحقًا عندما قال إن «ولاء بعض الشيعة العرب إيراني». وهنا، في هذا السياق بالذات، من الإنصاف القول إن التشيّع وحب آل البيت ليسا أكثر من القناع الانتهازي الذي يخفي مشروعًا فارسيًا قوميًا انتقاميًا لا علاقة له بالإسلام، وهو حتمًا يناقض كليًّا وحدة المسلمين ومصالحهم. في سوريا، تحت أنظار المجتمع الدولي ممثلاً بالأمم المتحدة تسير خطوات تهجير سكان المدن والبلدات التي تشكّل «سوار» الضواحي الدمشقية في الغوطة ووادي بردى والقلمون على قدم وساق، بينما تُرسَم «الحدود» شمالاً بين مناطق السيطرة الكردية و«النفوذ» التركي. وهذان يحصلان في ظل التفاهم الجلي بين واشنطن وموسكو على «هدنات مؤقتة» بحجة إيصال المواد الإغاثية والاتفاق على تعريف «الجماعات الإرهابية» وفصلها عن «المعارضة المعتدلة»، ووسط تجاهل القصف الجوي النظامي والتدخل الميليشياوي الإيراني المباشر وغير المباشر بواسطة الميليشيات اللبنانية والعراقية والأفغانية وغيرها. والقصد أنه ما كان لأشهر خلَت مسارًا خفيًا أضحى اليوم سياسة معلنة محليًا وإقليميًا ودوليًا. ذلك أن تجميد جبهات الجنوب السوري (تحديدًا في محافظتي درعا والقنيطرة)، والتغاضي الظاهر عن تقدّم المعارضة ميدانيًا على جبهة ريف حماه، والفرز الجغرافي والديموغرافي المستمر على طول الحدود السورية - التركية.. كلها حقائق ميدانية لا يمكن تفسيرها إلا بوجود خرائط - مبدئية على الأقل - لحدود مكوّنات سوريا المستقبل، التي ستكون في أفضل الأحوال «فيدرالية» تقتطع فيها مناطق نفوذ خاص لإيران وتركيا والأتراك، على حساب العرب السنة. أما بالنسبة لجولة الحوثيين، التي استهلت بزيارة العراق واختصرت مؤقتًا على الأقل، فإنها تأتي فعليًا لتؤكد المؤكد على صعيد سياسة المحاور التي نجحت طهران في فرضها على المشرق العربي كله، وسط سكوت دولي مريب. فما عاد هناك أدنى شك في أن الحوثيين يشكلون مخلب قط إيرانيًا في جنوب شبه الجزيرة العربية. وكان علي عبد الله صالح، الذي يحالفهم ويستقوي بهم اليوم، قد ترك لهم عمدًا مجال النمو والتوسّع وفق تكتيك «فرّق تسد» الذي أتقنه والذي بفضله تمكن من السيطرة على اليمن لعقود. صالح كان يؤمن بوضع الأطراف النافذة أحدها ضد الآخر في لعبة توازنات بهلوانية خطرة. وحقًا كان في صلب هذه اللعبة تغاضيه عن تنامي الظاهرة الحوثية بكل أبعادها المذهبية بُغية استغلالها في وجه «إسلاميي» التجمّع اليمني للإصلاح و«يساريي» الحزب الاشتراكي في الجنوب، ثم «القاعدة» نفسها. لكن صالح اكتشف خلال بضع سنوات أثناء مروره في معقل الحوثية بشمال اليمن أن ما توهّم أنه «صنيعته» وورقة مضمونة في يده داخل الحلبة المحلية اليمنية صار «طابورًا خامسا» إيراني الهوى والولاء والتوجيه، فكانت المواجهة المسلحة ومعها القضاء على حسين بدر الدين الحوثي عام 2004. علي عبد الله صالح كان قبل 2011 ربما يعرف أكثر من كثيرين صلة الحوثيين بإيران، وهو اليوم متيقن من ذلك تمامًا بعدما عاد حليفًا لهم في لعبة طائفية أخطر لها امتداداتها الإقليمية. وجولة وفد الحوثيين التي خُطّط لها أن تشمل العراق ولبنان وإيران، ثم تلقيهم دعمًا ماليًا من حكومة حيدر العبادي تؤكدان بصورة نهائية تكامل «الهلال الفارسي» بقناع التشيّع مع وصوله إلى الجنوب العربي. في هذه الأثناء يقف المجتمع الدولي إما عاجزًا وإما متواطئًا، ولا احتمال ثالثًا مع هذين.. لقد شاهد الموفد الدولي إلى اليمن إسماعيل ولد الشيخ أحمد بأم العين مناورات الحوثيين وصالح داخل اليمن، ثم في مفاوضات الكويت وانقلابهم على كل تعهداتهم، مستقوين بترك القوى العالمية الكبرى إيران تعربد على هواها في طول المنطقة العربية وعرضها. وفي سوريا تحوّلت الأمم المتحدة حقًا إلى مجرّد هيئة إغاثة فاشلة وقاصرة، تعجز حتى عن إيصال الأغذية والإغاثة للأحياء والبلدات المحاصرة، بل وتقدم الأموال والإعانات لجمعيات ومنظمات مشبوهة يديرها ويشرف عليها رموز نظام الأسد والمنتفعون منه. وغدا الموفد الدولي ستيفان دي ميستورا «شاهد زور» حقيقيًا بينما تعكف واشنطن وموسكو، ومن خلفهما طهران وإسرائيل، على الإعداد لسوريا مختلفة جديدة خفية عن السوريين وبالرغم منهم. وضعا سوريا واليمن لا يختلفان، في الواقع، كثيرًا عن وضعي العراق ولبنان. بل لا يختلفان عن وضع أي كيان في المنطقة وضعت القيادة الإيرانية الحالية نصب عينيها «تصدير» الفتنة إليه، تارة باسم «التحرير» وطورًا باسم «المقاومة».. ومرة ثالثة «دفاعًا عن المراقد والمزارات». وطبيعي تسارع الإيقاع مع العد التنازلي لرئاسة باراك أوباما بما أنه من المستبعد أن يعطي مَن سيخلفه (أو ستخلفه) إيران ما أعطاها إياه أوباما. ومن ناحية أخرى، تثير السياسة الأميركية الغامضة إزاء تركيا والأكراد تحفّظات وتداعيات إقليمية غير مريحة للطرفين أمام خلفية الدخول الروسي النشط على الخط. والواضح أن هذا الدخول لم يفرض فقط على اللاعبين المحليين إعادة حساباتهم، بل تعدّى هؤلاء إلى القوى الأوروبية الكبرى. ولعل هذا يبرز أكثر ما يبرز في الضيق الفرنسي من «صفقات» واشنطن - موسكو الشرق أوسطية «الخفية» التي ستتحمّل الدول الأوروبية تبعاتها، عاجلاً أو آجلاً، على الأصعدة الأمنية والسياسية والاقتصادية والإنسانية. صحيح، تظل واشنطن وموسكو القوتين الأكبر عالميًا، لكن الثمن الأعلى لسياستهما الخاطئة واللاأخلاقية ستدفعها - بعد كيانات الشرق الأوسط المغلوب على أمرها - الدول الأوروبية وهي في مرحلة دقيقة وهشّة من تاريخها الحديث.