الرياضيون البريطانيون يسبقون الصين وروسيا ويحصدون الميداليات في أولمبياد ريو دي جانيرو، 58 ميدالية (24 ذهبية) حتى مساء الجمعة، ولا تزال ثلاثة أيام باقية على إتمام الدورة. اعتاد جيلنا وجود بريطانيا وألمانيا وفرنسا، أولمبيًا، في الدرجة الثانية، بينما انحصر تنافس الشريحة الأولى لنصف قرن بين أميركا وروسيا (وارثة الاتحاد السوفياتي بتقديس الرياضة والعلوم والفنون) والصين. الأسباب طبيعية، وسياسية واقتصادية. إحصائيًا الأمم الكبيرة تفرز العدد الأكبر من الرياضيين. أميركا 324 مليون نسمة، روسيا تفوق 150 مليونًا، والصين أكثر من بليون، وبالطبع تتزايد فرصة تعدد أبطال وبطلات الرياضة بزيادة عدد السكان. هذا وحده لا يكفي مثلما يدل الواقع، فمقاطعة يوركشير الإنجليزية وسكانها أقل من ستة ملايين، حقق رياضيوها لبريطانيا إحدى عشرة ميدالية، أكثر مما حققه رياضيو الهند (1.3 مليار نسمة) وفيتنام (94 مليونًا) وإيران (81 مليونًا) مجتمعة، هنا تتداخل عوامل أخرى، كمستوى المعيشة وتربية الإنسان ثقافيًا واجتماعيًا، ومستوى التعليم والصحة. كلها تتأثر بعوامل الاقتصاد والقرارات السياسية. في حالتي الصين، وروسيا (بامتداد النظام الاشتراكي من إرث الحقبة السوفياتية)، تنفق الدولة على لعبة رياضية واحدة أو فريق من أربعة أشخاص ما يفوق ميزانيات دول بأكملها. ميزة يتمتع بها رياضيو البلدان الاشتراكية ويحسدهم عليها رياضيو الغرب، حيث لا يوجد دعم سخي من الدولة، فالخزانة تمنح أولوية التمويل للصحة والتعليم والأمن والدفاع قبل الرياضة. أميركا بنظام اقتصادات السوق الحرة تدعم أندية ومؤسسات رياضييها من تبرعات محلية، والدعم الأكبر من شركات تصنيع الملابس والمنتجات الرياضية. تتبنى رياضيين وتدعمهم، إلى جانب الإعلانات من التلفزيون وعقود حقوق البث. بريطانيا تجمع (بشكل أكثر تواضعًا وفقرًا) بالنظامين. لكن حتى أولمبياد بكين عام 2008 كان أداء بريطانيا متواضعًا في مستوى بقية بلدان أوروبا، ولم يحلم أحد بأن تسبق بريطانيا، روسيا والصين، لتحتل المرتبة الثانية في عدد الميداليات، خصوصًا الذهبية في أولمبياد ريو دي جانيرو، بعد أن حصد رياضيوها 65 ميدالية في أولمبياد لندن 2012. كيف تحولت بريطانيا إذن إلى هذه المعجزة الرياضية؟ نمت المعجزة على ساقين؛ اجتماعي وسياسي. اجتماعيًا تنشئة الطفل بثقافة تحفز على الإبداع وإطلاق العنان لخياله، ومن يتولى موقعًا مسؤولاً لا «يمشي جنب الحائط» خشية مبادرة تؤدي لخطأ يهدد أمن الوظيفة «الميري» المضمونة، بل يغامر بمبادرات، بإطلاق العنان لخياله، لتترك إنجازاته بصماتها على التاريخ. إنجاز بريطانيا في أولمبياد البرازيل ميدالية ذهبية للسير جون ميجور. كرئيس للوزراء (1990 - 1997) جاء ميجور بفكرة «اللوتاريا» (سحب الياناصيب) القومية. التذكرة بجنيه واحد (أقل من ثمن تذكرة أوتوبيس وقتها، واليوم ثلث ثمن قدح القهوة)، والجوائز أحيانًا تصل إلى ملايين (حسب عدد التذاكر المباعة). الأرباح التي تصل إلى بضعة ملايين أسبوعيًا تدعم الجمعيات الخيرية، وأيضًا التراث الثقافي والفنون والمسرح والرياضة (حكومة المحافظين الثاتشرية الثالثة 1986، خلقت وزارة جديدة للتراث القومي والفنون والرياضة والثقافة). الكنيسة والتيارات المحافظة ضمت صوتها لليسار الاشتراكي والمثقفين الحنجوريين في انتقاد المشروع، واعتبروه ضريبة لتحويل أحلام الفقراء إلى بقرة حلوب. مؤيدو المشروع جادلوا بأن إنفاق الفقير الجنيه على حلم قد يحقق له الثراء، أفضل من إنفاقه في أمور أخرى تضر الصحة والمجتمع، كما أن التاريخ مملوء بنماذج تمويل اليانصيب للمشاريع العظيمة. مثلاً عند تأسيس جمعية الإسعاف المصرية في 1902، كان تمويلها، وظل لعقود طويلة، من بيع تذاكر سحب اليناصيب بجوائز، التي لا تزال تعرف في مصر بـ«لوتاريا» الإسعاف (يانصيب الإسعاف بعد التعريب). كذلك مشاريع خيرية؛ كمعونة الشتاء ودعم اللاجئين، وبارك الأزهر المشاريع، لأن القصد هو الخير ودعم المحتاجين. حسم الجدل لصالح مشروع رئيس الحكومة ميجور، بإصدار البرلمان التشريعات المنظمة. الدعم من دخل اليناصيب يذهب مباشرة للرياضيين والفنانين والمبدعين أنفسهم، بلا وسطاء واختصارًا للنفقات الإدارية والبيروقراطية (تتراوح ما بين نصف وثلثي الميزانية المخصصة). هذه التحول وفر للمبدعين والرياضيين فرصة التفرغ لممارسة الرياضة أو الفنون. الملاحظ أن التفوق الرياضي الذي ظهر في أولمبياد لندن وتكرر في الأولمبياد هذا الأسبوع في البرازيل، واكبه، بعد نضج مشروع دعم اليناصيب القومي، نهضة في الفنون والمسرح ومجالات الإبداع تظهر في حصد الفنانين البريطانيين لجوائز الأوسكار في عقر دار هوليود الأميركية، وفي صناعة العروض المسرحية الهائلة التي تجذب ملايين السائحين وتصدير الفنون البريطانية لكل أنحاء المعمورة. القواسم المشتركة بين البلدان الأولى في الألعاب الأولمبية؛ هي الوعي الفردي والجماعي بالصحة العامة وسلامة العقل والبدن ونظافة البيئة، ورقي مستوى التعليم، حيث تتوفر الملاعب الرياضية وقاعات التدريب الداخلية في المدارس بجميع مستوياتها، ومساعدة الفرد، تلميذًا وتلميذة، على الإبداع والطموح بالخيال. مثلاً لورا طروت، بطلة الأولمبياد في مسابقات الدراجات، التي حصلت لبريطانيا على ثلاث ذهبيات هذا الأسبوع، نشرت الصحف صورتها عندما زار بطل أولمبياد مدرستها وهي في الثانية عشرة واقترضت ميدالياته لتلتقط الصور بها. طارت الطفلة على أجنحة الخيال وأخرجت في حلمها فيلمها الخاص، وهي نجمته الأولى، تتسابق وتفوز وتتقلد الميدالية الذهبية ومكبرات الصوت تلعب النشيد القومي لبريطانيا، وبعد عشر سنوات حولت الحلم إلى حقيقة واقعة في الأولمبياد البرازيلي. رياضيو مصر والبلدان العربية فشلوا في كسب معظم المسابقات وانشغلوا بالأزياء غير المناسبة للألعاب والمكان، وبرفض مصافحة اللاعبين الآخرين، أو مشاركتهم حافلات النقل لأسباب معروفة، رغم أن نسبة إنفاق بلدانهم على الرياضة (الناتج القومي وعدد السكان) تفوق مثيلتها في بريطانيا. رغم أهمية التمويل المباشر (كيانصيب ميجور مثلاً)، فالأهم تحرير خيال أطفال مصر والعرب من نظام تعليم يؤدي إلى عقم ذهني. أذكر صحافيًا عربيًا كبير الوزن في محيطه، عاش في لندن لسنوات طويلة، اعترض منذ سنوات على جملة «أفردت الصحف مساحات شاسعة...»، فخياله حصر المساحة في الأرض فقط، الإنجليز يقولون أفردت الصحف (acres of space) «فدادين (هكتارات) للخبر». الصحافي نفسه هذا العام عجز عن قبول فكرة ترويج أبناء مهاجرين لخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، لأنه، رغم تجنسه البريطاني قبل ربع قرن وتحسنه اقتصاديًا لمصاف المليونير، فإن ذهنه ما زال أسير المدرسة العربية التي لم تطلق العنان للخيال، ليتصور المهاجرين خارج الصورة النمطية. وبلا تحرير عقل الطفل وخياله منذ مرحلة الحضانة، لن يحصل العرب حتى على «ميدالية مصدية» في أي مجال، مهما أنفقوا من أموال.