×
محافظة المدينة المنورة

10 مبادرات لإطلاق شركة «نماء المنورة» قبل نهاية العام

صورة الخبر

لندن: عدنان حسين أحمد تنتمي رواية «وأقبل الخريف مبكرا هذا العام» للكاتب العراقي قصي الشيخ عسكر إلى نمط الروايات المهجّنة التي تجمع بين أزمنة وأمكنة وشخصيات متعددة غالبيتها دنماركية وأخرى عراقية. وعلى الرغم من أن بطل الرواية وراويها المهيمن هو شخصية عراقية إشكالية تنطوي على قدر كبير من الصبر والجلَد والتحدّي فإن الشخصيات الدنماركية الأخرى لا تقل أهمية عن هذا البطل، لأنها ستؤثث الفضاء الروائي برمته عبر الجد الطاعن في السن يوهان ماترلنك وحفيدته تيرينا. كما تتشظى المسارات السردية لتغطي شخصيات مستديرة أخرى مثل مريته هولم، خالة بكيت راغسموسن، زوجة يوهان المتوفاة، وحارس المقبرة بنت، والعراقي عبد الله اللوريني الذي سيسجل حضورا لا بأس به عبر الاستعادات الذهنية لبطل الرواية وساردها الأول. * الشخصية المحورية تتكئ الرواية في جانب كبير منها على شخصية اللاجئ العراقي الذي يتبنّى عملية السرد غير أنه لا يحمل اسما أو ملامح محددة، لكننا سنُحاط علما منذ مستهل الرواية بأنه كان متذمرا من المعونات الاجتماعية التي تقدمها الدولة له أسوة بكل اللاجئين الأجانب. وقد وجد ضالته فعلا حينما عثر على عمل في دار المسنّين. كما أرشدته المشرفة الاجتماعية تيرينا إلى العمل مع جدها يوهان ماترلنك. وقد اقترح عليه هذا الأخير أن يكمل نصابه من العمل بخدمة مريته هولم، خالة زوجته ليتحرر كليا من نظام المساعدات الاجتماعية ومن وصاية المشرفين والمشرفات، خصوصا أن الدنماركيين فضوليون ويسألون أي شخص غريب عن مصدر رزقه. ستتضح شخصية الراوي وطويته وطريقة تفكيره منذ الفصل الأول حيث يعترف في مناجاته بأن الدول الإسكندنافية تدفع على نفقتها الخاصة أكل اللاجئين وشربهم ومنامهم ومتعهم أيضا، كما يذكِّرهم في هذه المناجاة بأنهم كانوا لاجئين في أميركا زمن الاحتلال النازي، وأكثر من ذلك فإن أكثر من نصف مليون دنماركي هاربون من الضباب إلى البلدان المشمسة. ثمة مفتاح لكل شخصية مركبة في هذا النص الروائي. فالجد يوهان ماترلنك رجل أرمل، مريض، مصاب بتليّف الرئتين. كما أنه وحيد وعاجز عن الحركة فلا غرابة أن يشعر بالعزلة شأنه شأن الكثير من الدنماركيين الكبار في السن الذين يبدون منغلقين كما يعتقد الراوي، لكن عائلة يوهان بدت له منفتحة ولا تجد ضيرا في التعاطي مع الأجانب. توفيت زوجته بكيت راغسموسن عن 59 عاما سنة 1979 وهو يحتفظ برمادها في قارورة على الرف. كان يوهان مستعدا لفكرة الموت منذ سنوات طويلة، فلا غرابة أن يشتري له قبرا في كوبنهاغن منذ عام 1960، فأوروبا صغيرة، وقد لا يجد الإنسان مساحة صغيرة يُدفن فيها. أما الهمّ الوحيد الذي يقلقه فهو مستقبل حفيدته تيرينا. ويشعر الراوي بعد أن تتطور علاقته بهذه الأسرة أن الجد يوهان والخالة ميرته هولم يوحيان له بشكل من الأشكال أن يقترب أكثر من تيرينا، علّه يجد حلا لهذا الإشكال، خصوصا أن الجد يريد أن ينقل ملكية شقته إلى حفيدته بدل أن ترثها أمها المغيبة في النص الروائي، ولا نعرف عنها شيئا سوى أنها متزوجة من دبلوماسي في إسبانيا، وأن تيرينا لا تريد الاتصال بها لأسباب مجهولة. ما كنا نخشاه على مدار الرواية سوف يقع في الفصل الأخير، حيث يموت الجد وحيدا، قبل أن يتمكن من الاتصال بالإسعاف أو بحفيدته، فيوارونه الثرى في القبر الذي اشتراه قبل ربع قرن. * الحفيدة تيرينا على الرغم من ثراء شخصيتي الجد والراوي العراقي، الذي كشف لنا جانبا من شخصيته حينما أسرّ ليوهان بأنه محكوم بالإعدام، وقد تعرّض للسجن والتعذيب لأنه هارب من الحرب، فإن شخصية تيرينا لا تقل ثراء وإشكالية عن الشخصيتين السابقتين. فهي مشرفة اجتماعية، وتطمح أن تكون عارضة أزياء لكنها قصيرة بعض الشيء وفقا لمعايير الجمال الأوروبية، لأن طولها يحتاج إلى سنتيمترين آخرين، وأنها فتاة حساسة ورقيقة، وربما يسبب لها الإخفاق في المسابقة بعض المعاناة والألم. وقبل أن تتعمق علاقتها بالراوي خرجت معه إلى مدينة الألعاب، واطمأنت إليه. ونظرا للتشجيع الذي يلقاه الراوي من يوهان ومريته هولم، يدعو تيرينا إلى العشاء في منزله، وقبل أن تغادر قبّلها على خدها ثم نظر في عينيها طويلا فرأى بريق الحب والرغبة الغامضة في الوصال، فطلب منها أن تنام في بيته فاكتشف أن يوهان كان مخطئا، وأن حفيدته لم تكن عذراء، فلربما نامت مع رجل آخر أو هتكت عذريتها بإصبعها كي تثبت أمام بقية الفتيات أنها امرأة. ربما تكون مريته هولم هي الشخصية الأكثر تمردا في الرواية. وقد خرجت على العادات والتقاليد المحافِظة للأسر الأرستقراطية، وهربت من أهلها بمجرد بلوغها سن الـ18. وكانت تبيت في مقر الحزب الشيوعي، وقد تزوجت من شخصين؛ الأول دنماركي، ثم اقترنت بأميركي من أصول أفريقية، لكنها انفصلت عنه لتمحو من رأسها فكرة الزواج نهائيا. وهي شخصية مرحة وحيوية على الرغم من بلوغها الـ77 لكنها تبدو أنشط من شابة في الثلاثين. لقد ساهمت مريته هولم في حث الراوي على الاقتراب من الحفيدة تيرينا، والإيحاء له بحاجتها الجنسية، خصوصا أنها تعيش في مجتمع مرفّه تحرر منذ سنين طويلة من منظومة القيم الاجتماعية التي تحد من تلبية الحاجات الجسدية للإنسان. * المساحة المشتركة مهما اتسعت الهوة بين الشعوب والثقافات المتنوعة في العالم، فإن المساحة الإنسانية المشتركة تظل أكبر مما يتخيله العقل البشري. ولو قارنا بين شخصية الراوي العراقي وأي من الشخصيات الدنماركية الأخرى لوجدناها قريبة من بعضها بعضا. وقد ساهم هذا الراوي بتحطيم بعض الجدران التي تقف حائلا بينه وبين اندماجه في المجتمع الدنماركي، لأنه نظر إلى النصف المملوء من الكأس من دون أن يعير اهتماما إلى الفروقات الطبيعية بين المجتمع العراقي الذي ينظر إلى الغراب والبوم كطيور مشؤومة قبيحة، بينما ينظر إليها الأوروبيون على أنها طيور حكمة جميلة. أو أن مقابرنا المهجورة مليئة بالعقارب والأفاعي بينما تحتشد المقابر الدنماركية الجميلة بالفتيات الحسناوات اللواتي يلوحن بأجسادهن تحت الشمس. لا يجد الدنماركي البروتستانتي ضيرا في أن تُحرق جثته بعد الموت، ويوضع رمادها في قارورة زجاجية تُركن على أحد الأرفف، كما هو حال بكيت راغسموسن، بينما لا يؤمن يوهان الكاثوليكي بحرق الجثث، وهو لا يريد أن يتصور بأنه يحترق، ويتحول إلى رماد، على الرغم من أنه ليس مؤمنا ولا كافرا، لكنه ببساطة شديدة لا يُعنى بالدين ولا يحتوي ذهنه على مساحة كافية للتفكير في خلق الكون أو طبيعة الحياة الأخرى التي نتجه إليها بعد الموت. وفي السياق ذاته، يغيّر البستاني «بنت» قناعاته الدينية، ويتحول إلى البوذية، لأنها ديانة تحرّم القتل. كما يقرر عدم السفر إلى أي بلد في العالم، باستثناء الهند لأنه يعتبرها أُمّا للعالم برمته. لا تكتفي الرواية بمناقشة منظومة القيم الاجتماعية والثقافية والدينية، وإما تتحدث عن الحرب في العراق وأوروبا على حد سواء، ويكفي أن نشير هنا إلى أن الجد يوهان المنحدر من أصول ألمانية كان يتحدث عن الاحتلال النازي ومقاومته له، ويفتخر بأنه أنقذ ثمانية جنود أميركيين هبطت طائرتهم هبوطا اضطراريا في مزرعته، ثم هرّبهم إلى الساحل ومنه إلى السويد ليتلقى بعد مدة وجيزة كتاب شكر من الرئيس إيزنهاور. خلاصة القول: يمكننا أن نصنّف هذا النص الروائي بالنوفيلا، إلا أنه توفر على مجمل الاشتراطات الروائية التي تتعلق بالزمان والمكان والحدث والشخصيات النموذجية التي قالت أشياء كثيرة، وطرحت كما كبيرا من التساؤلات الفكرية والثقافية والاجتماعية والدينية على حد سواء في 86 صفحة لا غير!