كانت أحداث هذا العام القريب شديدة القسوة والعنف، تغيرات عنيفة فى المشهد السياسى بعد عزل الرئيس السابق محمد مرسى، تخلى عن الحشد لصالح الصناديق بالحشد لصالح التفويض، ثم عنف سياسى واسع بدءا من أحداث الحرس الجمهورى مرورا بفض اعتصامات ميادين رابعة العدوية والنهضة وصولا إلى اغتيال المستشار هشام بركات والعمليات الإرهابية فى سيناء وغيرها من المدن المصرية. كانت المرة الأولى فى حياتى التى أرى فيها كل هذه الدماء تسيل على بعد بضعة كيلومترات من مسكنى، وهو أمر لم أستوعبه إنسانيا بغض النظر عن أى خلافات سياسية مع الضحايا، ثم ومع الساعات الأولى لليوم التالى للفض، كان المشهد أكثر قسوة بعد قيام الإرهابيون بمذبحة فى قسم كرداسة وانتشار الأخبار عن اعتداءات بالجملة على الكنائس فى صعيد مصر. كان المشهد مرشحا لدخول مصر فى حرب أهلية أو فوضى عارمة، وهو ما أصابنى بمخاوف واكتئاب عميق عانيت منه قرابة الشهر ولم يخرجنى منه سوى بعض الأصدقاء المقربين. *** الآن وبعد مرور ثلاث سنوات على هذه الأحداث العنيفة، تطورت السياسة المصرية كثيرا وهى تطورات سلبية فى العموم؛ لأن عملية الفض بالقوة خلقت مناخا عنيفا وبيئة مشجعة للاستقطاب ورغبة فى الثأر والانتقام المضاد. ترصد هذه السطور بعض ملامح السياسة المصرية مند عملية فض الاعتصامات: أولا: انتشار العنف السياسى والإرهاب: كانت النتيجة المباشرة لعملية الفض هو انتشار العنف السياسى والإرهاب والتى أخذت منعطفات خطيرة خلال العامين التاليين للفض. صحيح أن العنف السياسى والإرهاب انتشر بعد عزل مبارك، حيث بدأت الجماعات الإرهابية تنتشر فى سيناء محاولة استهداف نقاط تمركز الجيش المصرى هناك، إلا أن معدلات العنف قد تزايدت بشكل واضح بعد عزل مرسى ثم بعد ساعات قليلة من فض اعتصامات رابعة والنهضة؛ الذى أسقط المئات من الضحايا خلال ساعات معدودة، وهو ما حذر منه بعض السياسيين فى وقتها دون أن يستجيب أحد. انتشار العنف السياسى أخذ منحنيات أكثر خطورة بعد تشكيل جماعات إرهابية بدائية شبابية أعلنت مسئوليتها عن بعض عمليات اغتيال لضحايا من المؤسسات الأمنية، ثم كان التحول الأكبر مع بروز داعش على السطح ومحاولتها اجتذاب العديد من الشباب الراغب فى الانتقام والثأر. ثانيا: إعادة احتكار استخدام العنف من قبل الدولة: كان الفض بالقوة بحسب بعض وجهات النظر المحسوبة على النظام السياسى أو القريبة منه هو رغبة من الدولة وخاصة من مؤسساتها الأمنية إعادة السيطرة والتأكيد على احتكارها الحق الحصرى والوحيد لاستخدام العنف؛ وخاصة بعد شعور الدولة (السلطة) بتهديد حقيقى من فقدان قدرتها على احتكار أدوات العنف وهو بحسب نظريات الدولة القومية، حق وحيد وحصرى لمؤسسات الدولة. وقد عزز مشاعر التهديد بالنسبة للدولة ما حدث لجهاز الشرطة فى الثامن والعشرين من يناير ٢٠١١، فضلا عن انتشار السلاح فى يد الأفراد والجماعات وخاصة بعد تدهور الأوضاع السياسية والأمنية فى دول الجوار. بعد ثلاث سنوات يمكن القول إن الدولة بالفعل أصبحت أكثر سيطرة الآن على أدوات العنف، وكانت عملية فض رابعة وما تلاها من عمليات لحظر التجول امتدت لشهور، محاولة من الدولة لإعادة الثقة أولا والتدريب العملى ثانيا للأجهزة الأمنية والدفاعية وهو ما تحقق بالفعل الآن، لكن جاء ذلك بأثمان بشرية باهظة سواء من المدنيين أو من أفراد الجيش والشرطة، هذا قطعا فضلا عن الأثمان السياسية والاقتصادية التى دفعت ومازالت تدفع. *** ثالثا: تردى أوضاع حقوق الإنسان: كانت الأزمة الكبرى منذ فض رابعة هى تردى أوضاع حقوق الإنسان المصرى، سواء بمعناها الواسع ــ أخذا فى الاعتبار الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية ــ أو بالمعنى المباشر والذى يعنى الحقوق الجنائية والسياسية. كان لهذا التدهور ثلاث نتائج مباشرة، الأولى هى تعرض المنظمات الحقوقية المصرية لضغوط عنيفة من قبل النظام لتخفيض سقف عملها، والثانى هو دخول الدولة فى عمليات ثأر واسع كطرف فى المواجهة وهو ما عزز هذا التدهور بعد الدخول فى عمليات «تصفية» واسعة، والثالث هو تراجع الصورة الذهنية والسمعة الدولية لمصر، وذلك بعد أن فشل المسئولون المصريون وقتها فى تبرير عملية الفض العنيف لوسائل الإعلام والمجتمعات المدنية والرسمية الغربية. وبعد أن نجحت جماعة الإخوان المسلمين استخدام شعار رابعة الشهير والذى تمكن على الأقل خلال العام الأول التالى للفض من تأسيس رمزى للحدث والضحايا، تم استخدامه بشكل واسع سياسيا وحقوقيا لمناورة النظام المصرى من ناحية وتماسك التنظيم من ناحية ثالثة وهو النجاح الذى تراجع سريعا بعد العام الأول. رابعا: تصدع تنظيم الإخوان المسلمين: بعد ثلاث سنوات من الفض، فإن جماعة الإخوان قد تعرضت لتصدعات شديدة، فبعد فترة من التماسك الداخلى أولا والبينى ثانيا (مع باقى الفاعلين الإسلاميين)، والتعاطف العام ثالثا، والدعم الإقليمى رابعا، فقد خسرت الجماعة على كل هذه المستويات. فزخم المظلومية تراجع ومعه تزايدت مشاكل التنظيم وانقساماته الداخلية والبينية وخاصة بعد انهيار تحالف دعم الشرعية، كما تسبب الخطاب الإعلامى للإخوان فى تعميق الأزمات مع باقى القوى السياسية حتى تلك التى تعاطفت معها فى الأسابيع الأولى للفض، فضلا عن خسارة بعض التعاطف الشعبى، ثم كانت الخسارة الأكبر بخسارة الكثير من الدعم الإقليمى والدولى بعد نجاح النظام المصرى الرسمى فى اكتساب شرعية إقليمية ودولية خلال عام واحد فقط من الفض. خامسا: تجمد اليسار القديم: كذلك وفى خلال تلك السنوات، فإن تيار اليسار القديم لم يعد له أى أثر فى الحياة السياسية المصرية، فمع فشل ذريع فى تبنى أى خطاب حقوقى، فضلا عن الانحياز للقضايا الحقوقية والتى هى عصب اللعبة السياسية فى الظروف السياسية الحالية، والعجز عن إنتاج أى خطاب مغاير عن خطاب الدولة، والانفصال التام عن القضايا الاجتماعية والتى تميز فكرة اليسار عموما، بل والتورط فى بعض الخطب والانحيازات الفاشية فى طبيعتها، فضلا عن العجز على مستوى الوعى السياسى فى الخروج من مرحلة الحرب الباردة وفهم التحولات فى النظام الدولى، فإنه لا يكون من قبيل المبالغة القول إن اليسار القديم قد أقل تماما فى الحياة السياسية المعاصرة وهو ما يشكل فرصة حقيقية لظهور يسار جديد يتشكل بالفعل فى مصر الآن. سادسا: ارتباك التيار المدنى: رغم غموض لفظة «مدنى» فى هذا السياق، إلا أننى أعنى به بشكل عام الفهم السائد والذى يشير إلى الفاعلين السياسيين من غير المنتمين لتيار النظام أو تيار الإسلام السياسى، وهو ما يشمل مجموعات ممثلة للتيارات العلمانية والليبرالية واليسار الجديد، وهى التيارات التى تترواح بين الثورية والإصلاح فى طبيعتها وانحيازاتها على الأقل منذ ٢٠١٠ وحتى الآن. بعد انقسام واضح منذ بداية الأحداث حول الموقف من الفض، فقد ظل الارتباك والانقسام فى المواقف الحقوقية والسياسية هو المميز لهذا التيار، بين منحاز للقضايا الحقوقية بغض النظر عن انتماء الضحايا وبين متغاضٍ عن هذه الحقوق إما خوفا من دفع أثمان عالية أو لعدم الاقتناع بجدوى الملف الحقوقى أخذا فى الاعتبار الانتماءات السياسية والفكرية للضحايا. وقد كانت لحظة ترشح السيد حمدين صباحى ضد الرئيس السيسى فى ٢٠١٤ معبرة ومعمقة لهذا الارتباك الذى تحول لاحقا إلى انقسام. لا أحد يعلم كيف ستسير الأمور بالتيارات المدنية المعارضة حتى الآن، لكن يبدو أن العامين القادمين سيحددان بشكل كبير قدرة التيار على الالتئام وتبنى أجندة أوضح. *** هناك أربع خبرات يمكن للمهتمين بالسياسة عامة وبالعلوم السياسية خاصة استخلاصها من السنوات الثلاث التالية للفض. الخبرة الأولى أن الدول القومية مازالت تحتكر الحق الحصرى لاستخدام أدوات العنف، صحيح أن هذا الحق فى النظرية الديموقراطية الليبرالية محكوم بأدوات دستورية وقانونية للمحاسبة والمساءلة، إلا أنه ولاعتبارات إقليمية ودولية مازال حقا شرعيا مطلقا لمؤسسات الدولة، وأى فاعل سياسى يحاول تحدى الدولة فى استخدام هذه الأدوات مرشح للخسارة أكثر من المكسب. أما الخبرة الثانية فهى أن تأسيس المواقف السياسية على مظلوميات إنسانية أو مبادئ أخلاقية يدعم اللاعبين السياسيين فى الأجل القصير وربما المتوسط، لكن على الأجل الطويل فبدون تحقيق نجاحات سياسية وتنظيمية لاكتساب الجماهير وتحقيق توازن قوة على الأرض. فإن هذه المواقف لا تشكل أى أرضية صلبة لتفاوض سياسى لاحق. أما الخبرة الثالثة تتمثل فى أن النفس البشرية هى أرخص ما يمكن التضحية به فى الصراعات الصفرية بين التنظيمات الكبرى بغض النظر عن صوانات العزاء الصاخبة التى تقام تحت شعارات وطنية قومية أو دينية لدفن الضحايا، وهى خبرة مهمة للمواطنين لإعادة النظر فى سلوكهم وخياراتهم السياسية. ثم تأتى الخبرة الرابعة والأخيرة وهى أن احتكار أدوات العنف لا يمكن أن يكون بديلا للسياسة، إعادة احتكار أدوات العنف ما لم يكن محدودا بالقانون والدستور يمكنه تحقيق مكاسب إقليمية ودولية والحصول على شرعية، لكنه فى الوقت نفسه لن يخلق بيئة داخلية متماسكة أو منتجة أو قادرة على مواجهة التحديات الداخلية والخارجية، فهل يتعلم كل الفاعلين السياسين هذه الخبرات؟ ملحوظة: التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.