في العام 1798 كتب أديب ألمانيا وشاعرها الأكبر غوته قصيدة عنوانها «دراسة في إمّساخ النباتات» نشرها في باب «الله والعالم» في كتاب أشعاره المعنون «قصائد». اهدى غوته القصيدة يومها الى السيدة كريستيان فولبيوس التي كان سبق أن أنجب منها ابنه، ولسوف يقترن بها رسمياً لاحقاً. طبعاً قد يبدو اختيار هذا العنوان لقصيدة غرامية، للقارئ، غريباً بعض الشيء، لكنه لا يعود غريباً إن نحن عرفنا ان غوته انما استخدم هنا وعن قصد عنواناً كان سبق له ان استخدمه كاسم لواحد من كتبه العلمية. والقصد الذي نشير اليه يتعلق بأن الشاعر العالم، انما اراد في قصيدته ان يقارن بين غرامه بكريستيان وبين تلك الرؤية العلمية التي تشكل، من ناحية جوهر كتابه السابق، ومن ناحية ثانية نظريته حول المعرفة، اذ تتحول الى اعتياد عذب هادئ وتنتج الحب الذي هو وحدة ما تنتج الزهور والثمار. والحال ان هذه القصيدة التي اثارت دائماً دهشةً وإعجاباً ينضويان تماماً ضمن عقلانية غوته، التي جعلته يستخدم حتى التعبير الشعري، وحتى الحديث عن الغرام والعواطف الرومانسية السامية للتعبير عن عقله العملي والعلمي الخلاق في آن معاً. وذلك في اسلوب يخلو من الإفراط في الذاتية، ويتسم بنزعة موضوعية علمية مع انه يتلون بشاعرية منبثة بكل قوة هنا او هناك... وهو ما كنا اعتدنا ان نراه منتشراً في القصائد التعليمية التي كان القدامى يكتبونها، واشتهرت لدى العرب، مثلاً، بالأراجيز التي كان العلماء ينظمونها في نوع من الشعر البسيط قصد أن يمكّنوا قراءهم في شكل عام، وتلامذتهم في شكل خاص، من ادراك وحفظ ما يودون لهم أن يتعلموه من مبادئ علمية أو فكرية أو ما شابه. > لكن قصيدة غوته التي نشير إليها، ليست هي بالتحديد ما يهمّنا هنا. ما يهمّنا هو الكتاب الأصلي، أي العلمي، الذي أعارها عنوانه. وهو كتاب لن تصدر طبعته النهائية، التي سيعلن غوته رضاه عنها، الا في العام 1790، وفي مدينة غوتا تحديداً. في هذا الكتاب ينشر غوته 123 مقطوعة وفقرة قسمها على ثمانية عشر فصلاً، ممهداً لذلك كله بمقدمة نظرية مهمة حرص الكاتب على أن يشرح فيها تطور الحياة العضوية للنباتات بلغة علمية خالصة، لكنها لم تخل من اناقة. وتلك الأناقة في استخدام الكلمات والحرص على موسيقيتها كانا معهودين على الدوام في كل الأنواع الكتابية التي خاضها غوته، ذلك المبدع الذي كان - وسيظل - معتبراً أديب الفلاسفة وفيلسوف الأدباء. والحال ان غوته يدرس ذلك التطور، في كتابه، في شكل عام تحت زاويتين، يتحدث عنهما على الشكل الآتي: - هناك أولاً النمو الذي يظهر في جذع النبتة وفي أوراقها في شكل أساس، وهناك ثانياً التكاثر الذي يتم عبر الزهرة أو الثمرة. غير ان غوته ينبهنا في سياق هذا الرصد المزدوج، الى ان الإمعان في دراسة الأمر، سيكشف لنا عن أن التكاثر يحدث ايضاً ضمن إطار عملية النمو... ذلك أن تلك العملية لا تتم إلا مصحوبة باندفاعة الأوراق والبراعم. وفي هذا المعنى يصل غوته الى حد ان يقول لنا ان النمو، ليس في نهاية الأمر سوى عمليات تكاثر متعاقبة. ويؤكد غوته هنا أن في إمكاننا في الوقت نفسه ان نرغم نبتة على ان تبرعم، تماماً كما ان في إمكاننا ان نجبرها على أن تزهر. > هنا يلتفت غوته، لكي يفسر لنا بمنطق علمي عقلاني، انما بلغة مشرقة، عملية التبرعم والإزهار، ملاحظاً «ان العضو نفسه هو الذي ينمو ويتطور دائماً إنما بأشكال مختلفة، لكي يتحول إثر ذلك الى اوراق». انه العضو نفسه الذي يكون موجوداً في جذر النبتة، ثم يبدأ بالنمو ليكبر داخل البرعم. وهو يحدث له بعد ذلك ان يتحول ممتزجاً بعناصر جنسية، ما يجعله ينمو في نهاية الأمر داخل الثمرة. ويفيدنا غوته هنا بأن كل ضروب النمو هذه، انما تتم بفضل ثلاث عمليات مختلفة عن بعضها بعضاً تجري متعاقبة: الاقتراب، التمركز والتلاقح. وغوته يسبغ على ذلك العضو الأولي والأساسي (الجنيني) الذي يتحدث عنه هنا بصفته جذر حياة النبات اسم «بذرة» او «يرقة» ويقول لنا انه، في الأصل موجود في نواة البذرة التي تولد النبتة منها. > والحقيقة ان غوته - الذي كان معروفاً طوال حياته بأن قدراً كبيراً من الفضول إزاء كل شيء وإزاء أيّ شيء، يتحكم به وبكل خطواته دافعاً إياه الى أقصى حدود المعرفة والإبداع المبني عليها، لم يكن مهتماً كل هذا الاهتمام الدقيق والتفصيلي بقضية النباتات، حتى وإن كانت اهتماماته العلمية كبيرة واسعة وقديمة. ولكن قيّض له ان يقوم ذات مرة برحلة الى ايطاليا (وكان ذلك في العام 1786) فدفعته الرحلة، بعد تأمل وتعمق الى الدنو بهذا الشكل العلمي من قضية النباتات وتكوين فكرة لنفسه عن هذا الموضوع ستكون في أساس الكتاب الذي نتحدث عنه. هو الذي خلال تلك الرحلة، انشغل باله للمرة الأولى بفكرة خيالية مدهشة حول ما سماه «النبتة النموذجية». وكانت الفكرة لمعت في رأسه أول ما لمعت حين كان يقوم بزيارة حديقة النبات في مدينة بادوفا الإيطالية خلال تلك الرحلة. ولسوف يخيل إليه لاحقاً، وهو في جزيرة صقلية، ان معجزة ولادة النبتة النموذجية قد تحققت امام ناظريه. أو هذا على الأقل ما كتبه في ذلك الحين في رسالة تغمرها الحماسة بعث بها الى صديقه الفيلسوف هردر وقال فيها بعد ان أسهب في الحديث عن الموضوع وعن المعجزة: «إن هذه النبتة التأسيسية الأولية ستكون أعجوبة العالم الأكثر إدهاشاً... والطبيعة نفسها ستحسدني ذات يوم عليها، خصوصاً أننا انطلاقاً من هذا النموذج الأساس سنكون قادرين على اختراع وإنتاج نماذج لا نهاية لها». إنه الاستنساخ إذاً، قبل ولادة فكرة الاستنساخ بقرنين على الأقل؟ > اذاً، انطلاقاً من تلك المقدمات والإرهاصات التي تبدو هنا، للوهلة الأولى خيالية خالصة، تمكن غوته من ان يكتشف ما سماه «العضو التأسيسي» ويستنبط مفهومه النظري المكوّن له. وقد قال علماء كثر لاحقاً أن فكرة غوته ومشروعه كانا جديدين طريفين على رغم ان العالم فردريك وولف كان سبق له أن استخدم مفهومي الورقة والجذع الأولين، في خلال عرضه لنظريته حول الأجيال، وعلى رغم ان كلمة «إمّساخ» (ميتامورفوز) كان سبق للعالم ليني ان استخدمها في هذا المجال نفسه: كانت نظرية غوته شديدة الجدة، لأنه - في هذا الإطار - عرف كيف يقطع مع كل النظريات العلمية التي كانت سائدة في القرن الثامن عشر والتي كانت ترى ان النبتة كلها موجودة، في الأصل، في البذرة، ومن ثم في البرعم. وكذلك، فإن غوته في هذا السياق نفسه، منظوراً إليه في بعده الفلسفي النظري، تمكن من ان يبتعد، قدر ما كان في إمكانه ان يبتعد، عن النظرة اللاهوتية التقليدية الى الطبيعة وكيفية عمل هذه الطبيعة، مقترباً في هذا السياق من فلسفة كانط، على رغم انه لم يكن يعرف لا كانط ولا فلسفة كانط في ذلك الحين. في اختصار اذاً، ووفق ما سيقول دارسو علم غوته وفلسفته لاحقاً، لم تنبن نظرية إمّساخ النباتات عنده في ذلك الحين انطلاقاً من أي اجتهاد حول التطور الطبيعي للكائنات، ولكن فقط في سياق تعبيري تأملي، في شكل يبدو معه الأمر وكأنه نتاج واحدة من لحظات غوته الخلاقة التي كان دائماً ما يتحدث عنها معتزاً بها، مصراً على ان الأفكار تأتيه خلالها، من دون أية تمهيدات مسبقة في السياق عينه. > وطبعاً وولفغانغ غوته (1748 - 1832) الذي نتحدث عنه هنا، هو نفسه الشاعر والفيلسوف وعالم البصريات والألوان، والكاتب المسرحي والمستشرق هوايةً، الذي تدين له البشرية بإنجازات وكتب رائعة مثل مسرحية «فاوست» و «الديوان الشرقي للشاعر الغربي» وغيرهما.