لم تكن التداعيات التي رافقت جلسة استجواب وزير الدفاع العراقي خالد العبيدي، غريبة عن المشهد العراقي المأزوم، فالاتهامات المتبادلة أصبحت مشهداً مألوفاً منذ 13 سنة، لكن الجديد أن ما كان يناقش في الخفاء أصبح يطرح في العلن، والفضل يعود إلى وزير الدفاع خالد العبيدي، الذي رفض، أو هكذا بدا للشارع العراقي، ابتزاز كتل برلمانية له أرادت أن تستغل وجوده في المسؤولية لتستحوذ على المال العام لأغراض سياسية غير مشروعة. خالد العبيدي، الذي وصف نفسه بأنه مقاتل ولا يخشى أحداً، رفض التهديد والابتزاز والتعاون مع أصحاب الصفقات المشبوهة، كما رفض التخندق الطائفي، وهو موقف كسب نتيجته تعاطف الشارع العراقي الرافض للطائفية. وعلى رغم تشكيك سياسيين في نوايا العبيدي، خصوصاً منافسيه الذين أخذتهم جرأته على حين غرة، فإنه ربح المعركة سياسياً، وما زاد من تعاطف العراقيين معه، وجوده في الخطوط الأمامية للمعارك مخاطراً بحياته من أجل أن يكون مع جنوده في ساحات القتال. لقد أعلنها العبيدي صراحة، أن سياسيين ضغطوا عليه للحصول على عقود من وزارة الدفاع، متذّرعين بحاجتهم إلى الأموال للإنفاق على حملاتهم السياسية وتثبيت وجودهم في المناطق المحررة من «داعش»، ولم يتردد في إعلان أسماء المتورطين بهذا الصفقات. وبين العبيدي أن صفقة الناقلات العسكرية (همر) وحدها كانت ستدُر على أصحابها ربحاً مقداره 260 مليون دولار. كما أعلن أيضاً أن النواب المعنيين طالبوه أيضاً بمنحهم عقد إطعام الجيش العراقي بكلفة تفوق المليار دولار، وقد اتهم رئيس البرلمان بعدم الحياد «لأنه طرف في هذه الصفقات». واشتكى العبيدي من أنه «يسير في حقل ألغام، وأنه كان يمكن أن ينجز أضعاف ما أنجزه لولا عرقلة رئيس مجلس النواب والفاسدين المحيطين به» الذين اتهمهم بـ «تدمير المؤسسة العسكرية». وبعد اتهام العبيدي سليم الجبوري بعدم الحياد، قرر الأخير التخلي عن رئاسة المجلس لنائبه آرام الشيخ محمد، ووعد بأنه لن يعتلي منصة الرئاسة ثانية حتى يحصل على البراءة الكاملة، مطالباً المجلس برفع الحصانة عنه كي يمكِّن القضاء من التحقيق معه، وقد وافق المجلس على طلبه مع نائبين آخرين، هما محمد الكربولي وطالب المعماري، وهو حدث غير مسبوق ويسجل لهم. وفي إجراء آخر، برأ القضاء العراقي رئيس البرلمان من الاتهامات التي وجهها إليه وزير الدفاع لعدم كفاية الأدلة، وحصلت التبرئة بسرعة غير مألوفة في الإجراءات القضائية، ما أثار استغراب كثر وزاد من شكوكهم في نزاهة القضاء العراقي. لكن، هل سيخرج وزير الدفاع من هذه المواجهة منتصراً، خصوصاً أنها مواجهة مع الكتلة التي رشحته للمنصب، والتي يفترض أنها تقف معه. ويذكّر موقفه هذا بموقف وزير الدفاع السابق عبدالقادر العبيدي، الذي اختلف مع كتلة التوافق بعد توليه منصبه لينضم إلى «دولة القانون»، لكن انتهى به الأمر لاجئاً في الولايات المتحدة. استجواب وزير الدفاع ترك تأثيرات نوعية على المزاج العام في العراق، وقد يساهم في نقل العملية السياسية إلى مرحلة جديدة، فالصفقات التي كانت تتم في الغرف الخلفية وتبقى أسراراً لا يعرف عنها الناخبون شيئاً، أصبحت تخرج إلى العلن في اللحظة التي يختلف فيها الفرقاء. من المتوقع أن يكون السياسيون أكثر حذراً في المستقبل، لكن من غير المتوقع أن تنتهي الصفقات التجارية لأن الكتل السياسية اعتادت على تمويل نشاطاتها عبر عقود يمنحها وزراؤها في الحكومة لشركات تابعة لها، وهذا ديدن معظم الكتل السياسية. ومن التأثيرات الإيجابية للاستجواب، أن الشارع العراقي رحب بجرأة وزير الدفاع في كشف الصفقات المشبوهة التي شارك بها سياسيون بغض النظر عن الطائفة التي ينتمون إليها، ولا ننسى أن الذي استجوب الوزير هو النائب عالية نصيف، وهي من «دولة القانون» ومقربة من رئيس الوزراء السابق نوري المالكي، بينما ينتمي النواب المساندون لها إلى كتلة «اتحاد القوى». المشهد السياسي العراقي لم يعد سنة مقابل الشيعة، بل أصبح مشهداً وطنياً يناقش قضايا تهم العراقيين جميعاً. لقد نجح الشارع العراقي في جعل السياسيين يبتعدون من الاصطفافات الطائفية، وسنرى المزيد منها مستقبلاً. لقد تحول خالد العبيدي إلى بطل في نظر كثر لجرأته في المواجهة، إلى جانب إنجازاته في ساحات المعارك ملحقاً الهزيمة تلو الأخرى بتنظيم «داعش». لا شك في أن العملية السياسية في العراق تمر في مخاض يبتعد بها من الطائفية السياسية، وقد بدأ هذا المشوار قبيل انتخابات 2010، عندما تشكلت كتل انتخابية عابرة للطائفية مثل قائمة «العراقية» التي ضمت قوائم علمانية (الوطنية)، وقومية (العربية)، وإسلامية (التوافق)، وقائمة «دولة القانون» التي كانت في الأساس تهدف إلى الخروج عن الإطار الشيعي لكتلة «الائتلاف الوطني العراقي». إلا أن محاولات الهيمنة السياسية مصحوبة بتدخلات أجنبية، حالت دون تبلور هذه المساعي للارتقاء بالعملية السياسية إلى مستوى يمكنها من بناء دولة مستقرة ذات اقتصاد قوي ومجتمع مدني فاعل وشعب متصالح منتج. لكن التطورات الأخيرة، وإن كانت إيجابية من ناحية محاربة الفساد وكشف السياسيين الذين يستخدمون مواقعهم للكسب غير المشروع، وفضح المساومات التي يمارسها سماسرة يتخذون من السياسة غطاء لكسب الثروة، إلا أنها قد تعرقل عمل البرلمان في الأمد المنظور بعد أن كان خرج من الأزمة السابقة، وهي أيضاً تأتي في ظروف صعبة يمر بها العراق وحكومة حيدر العبادي التي تعاني من الضعف بسبب استقالة عدد من وزرائها منذ أشهر عدة. وينتظر العبادي الوقت المناسب سياسياً كي يقدم قائمة الوزراء التكنوقراط إلى البرلمان لإقرارها، إلا أن اشتداد الانقسامات السياسية قد حال دون ذلك. من نتائج جلسة الاستجواب، أن البرلمان ضعف سياسياً فأصبحت الأجواء ملائمة لإجراء التعديل الوزاري المؤجل. المعروف عن العبادي، التأني في اتخاذ القرارات والسعي لإرضاء الجميع، وطالما تردد في اتخاذ قرارات مهمة سابقاً، ما سهل على خصومه التحكم بأجنداته السياسية. الفرصة الآن مواتية لإجراء الإصلاحات المطلوبة وتحسين أداء الحكومة، وفي إمكانه استثمارها كي يتمكن من مواجهة مرحلة ما بعد «داعش»، وهي الأخطر لأسباب عدة.