بعد أزمة 2008، حادثت عمالاً كثراً مسرَّحين من وول ستريت وسألتهم عن آرائهم في الأزمة وفي التسريح. كلهم نبهوا إلى ضعف العلاقات الاجتماعية في الشركات التي عملوا فيها قبل بطالتهم. وحين يعمل المرء 12 ساعة في اليوم، ويضحي بحياته العائلية، من العسير عليه بعد هذا، الرضوخ لحال تجعل دوره مجرد عجلة في آلة كبيرة. والعملاء الماليون (وسطاء البورصة)، وهم دعاة النيوليبرالية، يرفضون تعريف دورهم على هذا النحو السالب. ولا يختلف الأمر في سيليكون فالي، وهو طليعة روح المبادرة والابتكار، وأخلُص في هذا إلى أن الأيديولوجية النيوليبرالية الأخلاقية، في بعض قطاعات نظامنا الاقتصادي المتقدمة، أفلست وأخفقت. لا نجهل أن الاستقامة والمسؤولية هما من أركان علاقتنا بأمثالنا وزملائنا في العمل، وهما عماد أداء الشركات والمنشآت وظائفها. فإنجاز العمل على وجه مرضٍ ومتقن، هو في حد ذاته مطلب مشترك يرغب فيه معظم البشر. وهذا موضوع شرح مفصل في كتابي «معاً – في سبيل أخلاقيات التعاون»، حين أتناول العمل اليدوي. لكن مجتمعنا المعاصر يُحجِم عن تكريم هذه الطاقة التي تجمع المعرفة إلى العمل كما ينبغي. وبينما المهارة والتأهيل هما مصدرا معنى ودلالة، لا ينفك مجتمعنا ينزع الأهلية عن العمل وعن تدبير الناس شؤون حياتهم اليومية. أنا أنتقد النظرة الآلية (الميكانيكية) المحضة التي تلقيها النيوليبرالية على السوق وإواليات عملها. فهي تقتصر على الأرقام، وعلى تقنية المعاملات التي ترسمها، وهناك طريقة تحليل تتناول البشر العاملين، وتحتسب النتائج الاجتماعية لأعمالهم. فيلاحظ، في ضوء هذه الطريقة، أن خسارة الأعمال أو الوظائف العالية التأهيل تؤدي حتماً إلى تفاقم الشعور بالقلق والاضطراب. وعلى خلاف هذه الحال، ينجم عن الحفاظ على هذا الصنف من مرافق العمل، تمتين البنية الاجتماعية وتماسكها. ويدعو إلى الأسف انتهاج امتصاص البطالة نهجاً يعوّل على الوجه الآلي من أداء السوق. ويفضي هذا لا محالة إلى تجديد عوامل الأزمة، فثمة أزمة جديدة آتية حتماً. ومن جهة أخرى، نفسية واجتماعية، ولدت الرأسمالية الجديدة، رأسمالية الأسواق المالية والعولمة، «أنا» مختلفة. فهذه الرأسمالية تتصف بالسيولة والميوعة، وتخلف هيئات ومنظمات غير مستقرة تعمل لآجال قصيرة. والعمل الذي يتفق وهذه المعايير هو من غير مؤهلات ولا مهارة. وفي نهاية المطاف، انتفى مثال الحياة العملية والشخصية الذي كان يلخص خريطة طريق مهنية، أو مدونة مهنية في أثناء عمر كامل. وحل محل المثال المتصل مسار مهني متقطع ومتعرج، يجعل من العسير على العاملين الذين يتقاضون أجراً، تعريف أنفسهم وهويتهم. وتنشأ عن هذه الحال طباع جديدة، نواتها «أنا» شاغلها الأمد القصير، وبؤرتها الاحتمال وتقديره، ولا تقيم وزناً ولا شأناً للتجربة الماضية. ولا تميل هذه «الأنا» إلى التعاون، وهي ضعيفة العدة في مواجهة المسائل المعقّدة والمختلفة عن المألوف. ويرى جيفري غولدفارب، دارس الاجتماعيات، أننا نشهد ولادة «مجتمع كلبي» («سينيك» يتناول الأمور من باب المصلحة الأنانية والتخلص والشطارة). والظاهر أن أشكال الرأسمالية الجديدة تقدم العمل لأمد قصير وقريب. وهذا النظام يرتب الحؤول دون إرساء العمال علاقات تعاضد بين بعضهم، فلا يتقاسمون مصيراً مشتركاً متصلاً، أو يدوم وقتاً طويلاً. ويخالف هذا ميلاً إنسانياً أصيلاً وجينياً إلى التعاون، فإطالة وقت التفاوض تحمل الأطفال على نسج روابط قوية بينهم في اللعب، على سبيل المثل. وطيلة دراستي العمل اليدوي لاحظت سمة فريدة: التعاون عامل حاسم في تسييل «الميكانيكا» التي تمكِّن من إنجاز العمل وتقاسم ما ينقص الفرد أو أياً منا ليؤدي ما عليه. والرأسمالية في صورتها الحالية تقمع هذا المنطق، والعزلة التي تمليها المعايير العملية الفردية هي عدو التعاون، لكنّ النظم الاقتصادية لا تبلغ حد إلغاء طاقاتنا على العيش المشترك. فالصين التي تحولت بلداً رأسمالياً عدوانياً، لم تتخلَّ عن قواعد تماسك اجتماعي يسميه الصينيون «غوانشي». وتوجب هذه الشبكة المساندة خارج دائرة العلاقات الاجتماعية المستقرة والمعروفة. فهي تقوم على روابط غير مقننة، وتلزم- من غير قسر أو نص- بمساعدةَ المحتاجين وتلتف على القواعد الرسمية في سبيل البقاء على قيد الحياة والتمتع بها طويلاً. وفي المجتمعات الغربية، اعتاد اليسار تبنّي التضامن رداً على آفات الرأسمالية. لكن التضامن يرتب نظاماً عمودياً متسلطاً، ويقر رابطة أو علاقة تفترض وحدة «نحن ضد الآخرين غيرنا»، كما يُلاحظ من موقف الأوروبيين إزاء المهاجرين المتهمين بتهديد التضامن الوطني بالتصديع. ويفترض التعاون رابطة تجمع المتفرقين والشتات. وهي تعني كثرة الروابط الاجتماعية، من غير تقييد ولا تقنين. ورابطة الجمع تعترف بالفرق بين الأفراد، بينما يوجب التضامن الوحدة والتجانس. وهي تدعو إلى التشارك، أما التضامن فيشترط القبول غير المشروط. ورأيي هذا يؤدي إلى رفض فكرة الأحزاب الوطنية وما يصاحبها من قبول أعمى ينافي المشاركة. وبعض مأساة القرن العشرين ناجم عن إحلال اليسار التضامن المحل الأرفع من سلم قيمه ومعاييره، بينما حملت رابطة الجمع واللم على علاقة سطحية ولا تعد بمستقبل سياسي. وأنا مقيم على نهج لا يخلو من الحرية الفوضوية، ويتحفظ بشدة عن قواعد السيطرة والإلزام. وهذا النسيج مرن، يقر بالتباينات والخصوصيات، ويأبى القضاء عليها باسم التضامن. ويلاحظ أن البلدان النامية تعتنق فكرة التعاون، وهذا ما تشهد عليه القروض الصغيرة. وتبدو الفكرة عقلانية ومجدية، بينما يستدرج الكلام في الولايات المتحدة على المتكلم تهمة الجنون أو الحكم القاطع عليه بالفشل. وفي مستطاع الحيوانات الاجتماعية، أي البشر، التعاون فوق ما يتخيل النظام الاجتماعي أو يفترض. وما يقتضيه التعاون هو تنمية الإحساس بالآخرين والقدرة على الاستماع إليهم، وانخراط الإحساس في عالم العمل انخراطاً فعلياً وإيجابياً. فالتعاون ليس مسألة أخلاقية يصليها العلم الاقتصادي ازدراءه. وبحوثي في عالم العمل قادتني على الدوام إلى التقرير الآتي: طاقات العاملين تفوق المقدار الذي تفترضه المؤسسات وتعوّل عليه. وهذا ما يلاحظه أمارتيا سين ونظريته في الطاقات المضمرة، حين ينبّه إلى الفرق بين طاقات المعرفة، وبين استثمارها في العالم الحديث. لكن تعقيد وسائط الاتصال يتخطى قدرتنا على حسن استعمالها، وعلى نسج رابطة تعاون فعلية. فالمجتمع الحديث ينتج تعقيداً مادياً ليس في وسعه استثماره. وينبغي، في هذه الحال، إحياء الصلة المنقطعة بالحِرَفِي، وتعلّم طريقة عمل تتيح تعاوناً فاعلاً. والأولوية المترتبة على العمل بفكرة التعاون وتطبيقها هي إحياء الأجسام الوسيطة، مثل النقابات، ونفض البيروقراطيات عنها، وتوسيع دورها. ففي مقدورها تناول مسائل مهملة، شأن الصحة ومراعاة أسباب الراحة والإقرار بنوع العمل الناجز. وهذا يؤدي إلى أبنية تتولى حبك علاقات اجتماعية وتقويتها، والدفاع عنها في وجه التجاوزات والعدوان على الحقوق. * استاذ في «نيويورك يونيفرسيتي» و«لندن سكول اوف إيكونوميكس»، عن «ليبراسيون» الفرنسية، 1-2/2/2014، اعداد منال نحاس