إنّ القراءة البصيرة لكلمة صاحب السمو الملكي الأمير خالد الفيصل، في افتتاح الدورة العاشرة لهذا المحفل الثقافي والأدبي والفكري، تفضي بلا شك إلى المعاني الكبيرة التي تستبطنها، والرؤى العميقة التي ترمي إليها، فكل جملة من الجمل شكلّت هذه الوثيقة التاريخية. وسأحاول جهد المقل النظر في ما أضمرته هذه الكلمة من معانٍ، والرؤى الاستشرافية المتوقعة في ضوء ما جاء فيها.. فأول هذه الإشارات المبرقات ما أوضحه الأمير خالد الفيصل في أمر إحياء سوق عكاظ من سباته التاريخي العميق، حيث قال: «لم يَهُنْ على الملك فيصل - يرحمه الله - ضياعُ عُكاظ ونِسْيانه فبحث عنه حتى وجد وحدّد مكانه، ثم أَصْدر الملك عبدالله بن عبدالعزيز - يرحمه الله - أمر اسْتدعاءٍ ملكي تاريخي اسْتثنائي فحضر عُكاظ». ليمضي سموه في تسلسل الحقب والعهود الزاهرة ودورها مع سوق عكاظ بالإشارة إلى أن الملك عبدالله - رحمه الله - قد استدعاه، وصولاً إلى هذا العهد الزاهر حيث «خْروج عُكاظ من سجن الماضي البعيد بُحلّةٍ سعوديّةٍ حديثة للإسهام في مشْروع النَّهْضة السعوديّة العربيّة الإسلاميّة بقيادة الملك الهُمام سلمانَ شعاره الإسْلام في وطن السلام».. إن هذه التراتيبية التي أشار إليها الأمير خالد الفيصل في أمر إحياء سوق عكاظ، تنفذ إلى معانٍ بعيدة وعميقة، تكشف بجلاء عن منظومة في التفكير الماتح من عقل كبير وراجح، ونظرة للمستقبل تجعل من تعاقب العهود مجرد عتبات في طريق النمو والتطورات، وليس جزرًا معزولة، بما يؤكد أن الدولة السعودية منذ أن أكرم الله بها هذه الأرض المباركة، ولمّ بها الشعث والتشتت الذي ضربها وفتت من عضدها، لتجد الخلاص والأمان على يد الملك المؤسس - عليه رحمة الله - تتحلى برؤية واضحة لماضيها، وتمتلك أسباب العيش مع واقعها بكل متغيراته، وتستشرف لمستقبلها ببصيرة قارئة، ووعي نافذ، وتقدير كبير.. وعلى هذا فإن ما حدث في إحياء سوق عكاظ وفق هذه المنظومة التراتيبية التي من الواجب والمهم أن تؤخذ نموذجا لماهية التفكير عند قيادتنا الرشيدة، ماضيا وحاضرا ومستقبلا، ويمكن التدليل على ذلك بالنظر إلى منظومة التنمية في كل المرافق التي شهدت تطورا مستمرا، كما هو الحال في توسعة الحرمين الشريفين، فإن كل عهد من العهود السعودية الزاهرة وضع لبنته المميزة، في سياق تكاملي، لا يلغي فيه عهد ما بناه سابقه، وإنما هي منظومة مطردة النمو والتطور.. إن أُخذ سوق عكاظ نموذجا لها فيكفي قول الأمير خالد الفيصل في سياق كلمته إنه «كان لعُكاظ وَحْشة، فأصبح له دَهْشة الكُلُّ من حوله في فتن الحروب مشغول وهو يُكرِّمُ إبْداعَ العُقول في ساحةِ فكر لا ميزةَ فيها لعربيِّ على عربيِّ إلّا بالإبْداع». هذا هو المعنى الأول الذي تبدى لي مع كلمة الأمير خالد الفيصل، قرينا هذا مع الإشارة العميقة إلى تجاوز سوق عكاظ فكرة التحنيط التاريخي، والوقوف على الأطلال، وإنما جعله جسرا يربط بين الماضي والحاضر، مرورا إلى المستقبل بكل يسر وسلاسة، بحيث تحافظ هذه البلاد على سمتها الحاضري، وتميزها التاريخي بشكل لا يقطع إثرًا ولا ينسجن فيه، ولعل في برنامج عكاظ الذي أعد لهذه الدورة ما يعمق هذه الفكرة العظيمة، من حيث الموضوعات المطروحة والمتوافقة مع رؤية المملكة 2030، ليعلن الفيصل على إثر ذلك، وفي عهد سلمان الحزم والعزم أن «عُكاظ خرج من سجن الماضي البعيد بُحلّةٍ سعوديّةٍ حديثة للإسهام في مشْروع النَّهْضة السعوديّة العربيّة الإسلاميّة بقيادة الملك الهُمام سلمانَ الإقْدام شعاره الإسْلام في وطن السلام»، ولا يفهم إطلاقًا أن هذا الخروج المعني انسلاخ عن البعد التاريخي لهذا السوق، فمظاهر الاحتفاء بالتاريخ كانت حاضرة من خلال عروض الجادة، وما فيها من شواهد استدعاء التاريخ، تزاملها في ذات المساحة شواهد أخرى على تطور آخذ بكل أسباب التقدم التقني والعقلي الذي وسم إنسان المملكة في سياق من النمو المستمر والمبشر بمستقبل زاهر وواعد ينتظر المملكة، متى ما استنهضنا جميعا الهمم، وعملنا بكل جهد وعزم لتحقيق رؤيتها، وإنزالها إلى أرض الواقع بشكل يغير من المفاهيم المحنطة، وينقل المملكة إلى مصاف الدول المؤثرة في الساحة العالمية في كل المنافذ والمجالات. ولن أنسى بالضرورة المنشآت الجديدة، سواء التي تم تدشينها أو التي وضع حجر أساسها، فمن نافلة القول بأنها غراس سيؤتي أكله عمّا قريب، وجنًى ينتظر القطاف، لننعم بموسم يأتي علينا كل عام، ليصبح مثابة للفكر، وموئلاً للثقافة، ومركزًا للوعي والرأي والجمال. شكرًا لعبقرية هذا الأمير الفذ، مموسق الكلمة، وصاحب العزم المسدد، وهو يعيد إلينا سوق عكاظ من رقدته الطويلة، ليصبح واقعًا ملموسًا في عالم الجمال، ولا أملك إلا أن أرفع لسموه مقترحا أرى أنه من الممكن أن يزيد بهاء هذا المهرجان، فحبذا لو أن اللجنة العليا للسوق قد فعّلت دور الملحقيات الثقافية، ولو بليلة أو أمسية تتزامن مع أيام السوق، بحيث تشج المسافة بينها وبين مثقفي البلد الذي تربط بيننا وبينه أواصر الدبلوماسية عبر السفارات والقنصليات، فمثل هذا الصنيع، أجد أنه يدير بوصلة العالم باتجاه عكاظ في موطنها الأصلي، وتمددها في داخل بلدان العالم دون استثناء. nyamanie@hotmail.com