تعتز بريطانيا بتاريخها الثري، وتحافظ على آثاره مهما صغرت، في كل مدينة فيها هناك مواقع تراثية ترعاها جهات مختلفة إما حكومية أو خيرية، ولعل القصور الملكية هي الجواهر في تاج الآثار البريطانية، معظمها قاوم آثار الزمن وما زال يفتح أبوابه للزوار. ولكن هناك الكثير من المعالم التي لم يكتب لها النجاة من كوارث طبيعية مثل حريق لندن في عام 1669. منطقة الوزارات ومقر رئيس الوزراء 10 داونينغ ستريت الحالي كان لها تاريخ آخر؛ فهي كانت ضمن محيط قصر «وايتهول» الذي كان المقر الرئيسي لملوك بريطانيا في الفترة من 1530 إلى عام 1698 عندما تسبب حريق في القضاء على جميع مباني القصر ما عدا «بانكويتنغ هاوس» (دار الولائم)، التي ما زالت قائمة حتى الآن. قصر «وايتهول» في زمنه كان أكبر قصور أوروبا حيث كان يحتوي على 1500 حجرة، ولكن بعد أن دمر تماما في الحريق بقي اسمه الذي أطلق على الطريق الذي يضم حاليا المباني الحكومية للمملكة المتحدة. يبقى «بانكويتنغ هاوس» هو الشاهد على تاريخ طويل شهد زواج هنري الثامن من زوجته الثانية آن بولين ثم مر بعصر الثورة الإنجليزية، التي أودت بحكم الملك تشارلز الأول وأدت إلى قيام الجمهورية لفترة قصيرة ومن ثم عودة الملك تشارلز الثاني ليتسلم عرش أبيه. بعد تاريخ عريق ودموي في أحيان تحول «بانكويتنغ هاوس» ليصبح متحفا، يحمل تمثالا نصفيا للملك تشارلز الأول ويقدم لزواره غرفة الرقص الرائعة التي جملتها رسومات الفنان روبنز. وهذا الصيف تحول القصر الصغير ليصبح شاهدا ناطقا على وقائع تاريخية وقصص مثيرة حدثت بين جنباته وبالقرب منه أيضا. فعبر برنامج تفاعلي نظمته إدارة هيئة القصور الملكية التي تُعنى بقصور بريطانيا، أصبح من الممكن للسائح أن يتجول في أراضي قصر «وايتهول» محملا بجهاز إلكتروني خاص يبث عبر سماعات أذن إرشادات للزائر، يصاحبه ليقتفي آثار شخصيات عاشت في القصر، ويرشدنا عبر نقاط تجمع وضعت عليها أبواب خشبية وأقواس وأعمدة، كل منها يحدد مكان واقعة حدثت ومبنى طواه النسيان. نبدأ الرحلة من داخل «بانكويتنغ هاوس» (دار الولائم) حيث تسلمنا موظفة الاستقبال الجهاز الإلكتروني الغريب الشكل، فهو خشبي ذو قاعدة عريضة سوداء، تشرح لنا كيفية استخدامه: «هذا الجهاز سيصاحبكم في الجولة الافتراضية في (القصر المفقود)، كل ما عليكم هو وضع السماعات على الأذنين وتنفيذ ما يقوله الدليل الصوتي، في بعض الأحيان سيطلب منهم أن ترفعوا الجهاز لأعلى أو وضعه على سطح ما أو حتى استخدامه كسلاح». تلحظ دهشة على وجوه الزوار وتستطرد: «لتكون الزيارة ممتعة سنحاول عبر هذا الجهاز أن ندخل فيها عناصر أخرى غير الصوت، فستستطيعون لمس أجزاء مهمة من تاريخ القصر وبالجهاز سيمكنكم الاطلاع على تفاصيل أكثر». بدهشة وحس بالمغامرة تنطلق المجموعة الصغيرة محملة بالجهاز الخشبي، نبدو كفريق من المستكشفين الذين يبحثون عن الكنوز الدفينة، وهو وصف لا يبتعد عن الحقيقة بالفعل. الخطوة الأولى من داخل القصر، يصحبنا الدليل الصوتي إلى غرفة خافتة الإضاءة، بها طاولة خشبية عليها مجسم لقصر «وايتهول» القديم، عبر الدليل الصوتي والأضواء التي تسلط على أماكن محددة من المجسم، يبدأ الدليل بتحديد مساحة «القصر المفقود»، يسلط الضوء على المكان الذي نقف فيه، ونجد أن المبنى على ضخامته يبدو وكأنه نقطة في بحر، القصر المفقود كما يروى لنا كان يمتد على مساحة 23 فدانًا، وضم حدائق شاسعة و1500 حجرة، وكان أكبر مقر ملكي خلال عصر التيودور والستيوارت. يأخذنا الدليل الصوتي لخارج المبني، نتبعه ونقف في المدخل الذي يحمل التمثال النصفي للملك تشارلز الأول، يشير الدليل علينا برفع الجهاز الإلكتروني ووضع القاعدة العريضة منه على جانب من السور الحديدي، بمجرد أن نفعل ذلك تتعالى أصوات من السماعات، نتخيل المشهد أمامنا حسب الأصوات التي تتهادى لآذاننا، هناك جماهير كثيفة تتوافد خارج السور الحديدي، أصوات لأناس يتحدثون، امرأة تحث ابنها على الإسراع، رجال يتبادلون الحديث حول الحدث المهم الذي سيشاهدونه. الجماهير، كما سنعرف، تجتمع لمشاهدة إعدام الملك تشارلز الأول الذي خلعته الثورة التي تزعمها البرلمانيون بقيادة أوليفر كرومويل، وبعد القبض على الملك أقيمت مقصلة في مدخل «بانكويتنغ هاوس» شهدت إعدامه. من مشهد الإعدام نخرج إلى الشارع لنقف أمام باب خشبي أسود، نلمسه بأجهزتنا لنسمع منه أصواتًا أخرى تخبرنا عن أن هذا المكان يعلو قبو النبيذ الذي بناه الملك هنري الثامن وما زال موجودا حتى الآن، منه نمر عبر بوابة خشبية سوداء، نلمسها ونسمع تفاصيل محادثة مع الكاتب الأشهر ويليام شكسبير وبطلة مسرحية «الملك لير»، نعرف أن قاعة القصر في هذا المكان شهدت العرض الأول لمسرحية شكسبير في عام 1607 وكانت في حضرة الملك جيمس الأول وشكسبير نفسه. الطريف أن الدليل الصوتي يحثنا على التمثيل أيضا، فيتحول الزائر تحت إرشاداته إلى ممثل في المسرحية. يبدي بعض المشاركين تردده والبعض الآخر يضحك ساخرا من الطلب الغريب، ولكن بما أن الجولة معدة للعائلات والأفراد فمن الطبيعي أن تحاول الوصول للأطفال لتلقنهم جانبا من التاريخ بطريقة طريفة. قد تلقى هذه الطريقة ترحيب أو سخرية الزوار ولكن من المؤكد أنها تحاول جذب الزوار إلى داخل العالم الافتراضي لسكان قصر «وايتهول». الجولة تأخذنا لموقع وزارة الدفاع الحالية، وإلى المكان الذي اندلعت منه الحريق الذي أتى على القصر في عام 1669، ونسمع القصة عبر ممثلة تتقمص شخصية الخادمة التي تسببت في الحريق، بعد أن تركت ملاءات سرير معلقة إلى جانب مدفأة، وأدى تطاير الشرر من النار لحريق بدأ بالملاءة، وانتهى بالقصر كله. من الجوانب الطريفة في الجولة مشاهدة الزوار وهم يحاولون تنفيذ تعليمات الدليل الصوتي، فالبعض يتردد في استخدام الجهاز كسيف في مبارزة، ولكن بعد رؤية الآخرين وهم يفعلون ذلك نندمج جميعا في ذلك، ولا يصبح الأمر غريبا ففي العالم الافتراضي الذي نعيش على صوته ومؤثراته الصوتية نسمع صليل السيف ووقع ضرباته. نمر بـ«مدخل هولبين»، ونقف لنسمع محادثة بين الملك تشارلز الأول السجين الذي ينتظر الإعدام والقسيس، يتحول الجهاز وقتها ليصبح قلب الملك الذي يتحلى بالشجاعة لمواجهة مصيره، الجهاز يخفق بين أيدينا ويخبرنا الدليل أن نمشي في طريق محددة مشى فيها تشارلز الأول حتى وصل للمقصلة، تعلو ضربات القلب التي نسمعها عبر السماعات، ونحس بها عبر الجهاز في أيدينا، وبعد محادثة قصيرة بين الملك والسياف يسود الصمت. تنتهي الجولة داخل «بانكويتنغ هاوس»، وتحديدا في قاعة الرقص البديعة التصميم، في أرجاء الحجرة وضعت مقاعد «بيني» المحشوة والتي يمكن الاستلقاء عليها، نتمدد على المقاعد لنتأمل السقف المزين برسومات الفنان العالمي روبنز، بينما نستمع لمشهد تمثيلي ينقل لنا حفلاً راقصًا أُقِيم هنا، يقوم زوج من الزوار ليصاحبا الدليل الصوتي بالرقص على أنغام الموسيقى. يجب القول إن الزيارة التفاعلية رغم غرابتها وسذاجتها في بعض الأحيان، إلا أنها تنجح في جذب الزائر ليصبح زائرًا خفيًا لفصول من التاريخ المثير للندن، حتى وإن كان لا يعرف الكثير عنه، فالحكايات المروية والجولة في منطقة من أجمل مناطق العاصمة والاستمتاع بالقاعة المدهشة في «بانكويتنغ هاوس» تعوض الزائر عن كثير مما ينقصه. * جولة «القصر المفقود» التفاعلية تستمر حتى 4 سبتمبر (أيلول) المقبل.