النسخة: الورقية - دولي فاجأ ضم الكرملين القرم أكثر المتشائمين، فروسيا اعتُبرت إلى وقت قريب دولة محترمة ينمو اقتصادها باضطراد. وعلى رغم افتقار نظامها السياسي إلى الديموقراطية، سعت موسكو إلى أن تبقى قريبة من الغرب، لكن ما حصل في القرم لا يدل على احترام القوانين الدوليّة. ولم يسبق أن اقتَضَمت دولةٌ أجزاء من دولة أخرى منذ اجتاحت قوات صدّام الكويت في 1990. ولا تجوز مقارنة روسيا بنظام صدّام أو بنظام آخر، فهي تجمع الدخل المرتفع إلى مستوى ضخم من الفساد. ووفق تقارير البنك الدولي، روسيا هي في عداد الدول الأكثر فساداً في العالم. ورأى الغرب أن الفساد في روسيا مشكلة داخلية، وأنه يقع على كاهل موسكو جبهه وتذليل مشكلاته. وكان يُغض النظر عن هذا الفساد لأن الأموال التي ينهبها المسؤولون الروس تودع في المصارف السويسريّة وتستثمر في العقارات اللندنيّة. وحسِب الغرب أن هذه العلاقات المالية تشير إلى رغبة الروس في الحفاظ على علاقة جيّدة به. لكن هذا الحسبان لم يكن في محله، فالفساد وراء أزمة القرم الأخيرة، اثر تقويضه الاقتصاد الروسي، وحين ينحسر النمو الاقتصادي تبحث الأنظمة الاستبداديّة عن مغامرات إقليميّة توسعيّة من أجل الحفاظ على شعبيتها. ولا يخفى أن رُكن العقد الاجتماعي في روسيا في العقد الأول من القرن الحادي والعشرين هو النمو الاقتصادي الذي بلغ 7 في المئة سنوياً. وكان المواطنون يؤيدون الحكومة التي تؤمن لهم الاستقرار والازدهار لو كان الثمن القبول بتقييد حرياتهم. وساد اعتقاد بأن هذه الحال ستستمر إلى الأبد، فبوتين وعد إثر إعادة انتخابه عام 2012، بالحفاظ على نمو نسبته 5 في المئة، لكن سرعان ما انهار العقد الاجتماعي هذا إثر اقتصار النمو الاقتصادي العام الماضي على نحو 1 في المئة، فيما يتوقع اقتصاديون نمواً سلبياً في الفصلين الثاني والثالث. والنمو يَضمُر حين ينهش الفساد السلطة التنفيذية والقضائية، أي المؤسسات المعنيّة بفرض حماية حقوق الملكية واحترام العقود. واليوم، بعدما بلغ الاقتصاد الكساد، لم يبق على النخب الروسيّة إلا البحث عن مخرج من مأزقها، وهذه العمليّة محفوفة بالصعوبة وتقتضي بذل أموال، وتوسل القمع وشن حملة بروباغندا (الدعاية السياسية). ويدل الكساد إلى أن السلطة لم تعد قادرة على شراء الولاء الشعبي بواسطة الأموال، ولم يعد أمامها سوى توسل القمع والبروباغندا لفرض الولاء لها. والوصفة الأنجع لاستمالة الروس هي المغامرة العسكرية القصيرة والنصر الصغير. ويحقق الانتصار، مهما كان ضئيلاً ومهما كان ثمنه، زيادة في شعبية القائد. لذلك ليس مفاجأة ارتفاع مستوى شعبية بوتين إلى 80 في المئة. ولم يعد في الإمكان اعتبار الفساد الروسي عامل من عوامل ربط النخب الروسيّة بالغرب، فالنتيجة المباشرة لهذا الفساد هي سياسة خارجيّة عدوانيّة يحار الغرب في سبل التصدي لها. والفساد الروسي يهدد الأمن الدولي. لم تكن محاربة الفساد يوماً في صدارة اهتمامات السلطات الروسيّة. أمّا النشطاء الناشطون المستقلون، فحربهم مع هذا العملاق ليست حرباً عادلة. لذا، ثمة حاجة إلى تدخل دول غربية وتجميدها ممتلكات وحسابات المتورطين بالفساد، فتخبو شعبيّة بوتين في وسط الطبقة الحاكمة، وينخفض كذلك التأييد الشعبي لهذه النخب. مثل هذه الإجراءات يساهم في بروز روسيا الديموقراطيّة والمسالمة. * أستاذ في الاقتصاد في معهد باريس للدراسات السياسيّة، العميد السابق لمعهد الاقتصاد الوطني في روسيا، عن «فيدوموستي» الروسيّة، 3/4/2014، إعداد علي شرف الدين