لويس جوليان فيو المعروف ككاتب باسم بيير لوتي (1850- 1923) من أغزر كتّاب فرنسا في النصف الثاني للقرن التاسع عشر، نشر نحو خمسين كتاباً، بين الروايات وكتب الرحلات التي قام بها بعد أن استشرق وهام حباً بالشرق بمعناه الواسع من المغرب إلى اليابان واستحق لذلك أن يُنتخب عضواً في الأكاديمية الفرنسية عام 1892. وعلى رغم انتاجه الغزيز الذي يتصل وصفاً واستلهاماً ببلاد الشام ومصر والمغرب، إلا أنه شبه مجهول في اللغة العربية. فباستثناء فصل من كتابه «رحلة إلى المغرب» الذي يتعلق بوصف حي اليهود (الملاح) في مكناس بترجمة عبدالمنعم الشنوفي، لا أعرف له نصاً آخر في العربية. ولد جوليان فيو عام 1850 في بلدة روشفور غرب فرنسا، وهكذا نشأ في جوار المحيط الأطلسي طامحاً إلى الإبحار في أعماقه وهو ما تحقق له في السابعة عشرة، حين التحق بمدرسة البحرية وانخرط بعدها بالبحرية الى أن وصل إلى رتبة عقيد، ثم أحيل إلى الاحتياط في 1910. وخلال هذه السنوات أتيح لفيو بحكم عمله أن يجول العالم من تاهيتي إلى اليابان مراقباً وسائحاً، وحتى مشاركاً في الحملات العسكرية كما حدث في الصين عام 1900 حيث أرسل في حملة لإخضاع ثورة بوكسير. بدأ ولعه بالشرق مبكراً مع تركيا حيث ألهمته أول رواية نشرها عام 1879 بعنوان «أزياده» بلا اسم صريح للمؤلف. وفي السنة التالية (1880) نشر رواية «راراهو» من وحي إقامته في تاهيتي، وهي التي نشرت لاحقاً بعنوان «زواج لوتي». ومع هذه الرواية اشتهر باسمه الأدبي بيير لوتي المشتق من الاسم المحلي للوردة الحمراء (روتي). وتابع نشر مؤلفاته بمعدل رواية أو كتاب كل سنة إلى وفاته عام 1923، ونشرت بعد ذلك كتب عدة كان آخرها «المراسلات غير المنشورة» في 1929. تنوّعت مؤلفاته بين الروايات وكتب الرحلات التي تستلهم أو تصف الشرق من المغرب إلى اليابان، لتحمل ما هو غرائبي للقراء الأوروبيين. وفي ما يتعلق برواياته فقد كانت تجمع بين تجاربه الشخصية في الحب والعلاقة مع النساء في المجتمعات الشرقية مع بعض الخيال الذي تقتضيه الحال، كما سنرى لاحــقاً. لكن جولاتـه في الشرق، في بلاد الشام ومصر والجزائر والمغرب، التي وصفها أو استلهمها في رواياته تستحق التعريف وحتى ترجمتها إلى العربية، كثلاثيته عن رحـلته إلى فلسطين التي نشرها عام 1895: الصحراء والقدس والجليل. وخلال جولاته في الشرق الواسع كان حريصاً على اقتناء التحف والملابس والأشياء النادرة التي كان يحملها معه إلى مسقط رأسه. وبعد وفاته في 1923 تحوّل بيته الكبير في بلدة روشفور الساحلية إلى متحف متنوع يشعر الزوار بالانتقال من عالم إلى آخر. ففي قاعة الشرق تحف وقطع أثرية ذات قيمة كبيرة، ومن ذلك قطعة من سقف الجامع الأموي في دمشق الذي كان قد تعرض إلى حريق كبير عام 1893 وأعيد ترميمه لاحقاً. لكن بيته في روشفور ليس المتحف الوحيد الذي يزوره السياح ومحبو بيير لوتي، إذ لدينا مــا يــشبـه المتحـف الذي يـحمل اسمه في قمة تلة أيوب الجميلة التي تطل من موقع بديع على مضيق البوسفور وبحر مرمرة، وهو ما يــشيــر إلى العلاقة الخاصة التي ربطت بيير لوتــي بتركيا والأتراك. فقد غاص لوتي في الحياة اليوميـــة للأتراك مقــلداً إياهم في اللبس والأكل وشرب الدخان والأركيلة، ودافع عنهم منتقداً سياسة بلاده والغرب ضد تركيا. تعلّق لوتي بإسطنبول منذ أن زارها لأول مرة في 1876 واستلهم من إقامته فيها واختلاطه مع الأتراك روايته الأولى «أزياده» التي نشرت عام 1879. كانت الرواية تتحدث عن قصة حب بين رجل انكليزي وصبية شركسية متزوجة من عجوز بعدما تقدم لها باسم عارف افندي، وفيها ما يشي بتجربة شخصية، حيث اكتشف في زيارة لاحقة وفاتها فحزن عليها. وفي الرواية الأخرى «اللواتي استعدن صوابهن» التي كتبها من وحي تجربته ولاقت نجاحاً، نشرها على حلقات أولاً في «مجلة العالمين» ثم في كتاب عام 1906، يتحدث فيها عن فتاتين من الطبقة العليا تتعلقان بلوتي وتعانيان من القيود المفروضة على المرأة في المجتمع الشرقي. كان الانطباع الأول أن الرواية محض خيال، لكن هرب الفتاتين الى خارج تركيا بعد نشر الرواية لخوفهما من ردّ فعل الأسرة والأقارب أكّد ما كان يقال إن روايات لوتي تمزج ما بين التجربة الشخصية والخيال الأدبي وتتناول الحب الصعب أو المستحيل بين العوالم الثقافية المختلفة. بعد نشر الرواية زاد تعلق لوتي بتركيا أكثر، نتيجةً للأوضاع التي جعلت الدولة العثمانية في مهب الرياح بسبب حرب البلقان 1912-1913 والحرب العالمية الأولى، ونشر عام 1913 كتابه «تركيا في حالة احتضار» ونقد سياسة بلاده (فرنسا) التي أصبحت في حالة حرب مع البلاد التي أحبها. وزار في العام ذاته اسطنبول بدعوة رسمية حظي فيها باستقبال كبير على أعلى المستويات، حتى أن السلطان محمد رشاد استضافه في قصره. مع اندلاع الحرب العالمية الأولى استمر لوتي في توجيه نقده إلى سياسة بلاده وإلى مجمل السياسة الغربية التي تريد اقتسام المنطقة، ولذلك فقد أيّد «حرب الاستقلال» التي قادها مصطفى كمال ضد الجيوش الفرنسية والبريطانية واليونانية. لذلك قام مجلس الوزراء بتوجيه كتاب شكر له كما اعتبرته مدينة اسطنبول مواطناً فخرياً. بعد وفاته في 1929، سمّي باسمه المقهى الجميل على قمة تلة أيوب الذي كان يتردد إليه بيير لوتي ويتمتع بإطلالته الجميلة. تحوّل هذا المقهى إلى ما يشبه المتحف حيث تغصّ جدرانه الداخلية بالصور التي يتجلى فيها تمتع لوتي بحياته بين الأتراك ويحرص الزوار على رؤيتها، بينما أصبح المحيط الخارجي الذي يطل على البوسفور وبحر مرمرة باسمه «مقهى بيـيـر لوتي» ويجذب الزوار من تركيا وخارجها حتى يصعب وجود مكان فارغ فيه. في حياة لوتي كانت الصور تُظهر هذا المقهى في مكان معزول عن اسطنبول، لكن هذا المكان استقطب العمران وتحول إلى حي باسم بيير لوتي أيضاً. وبذلك يمكن لمن عــرف بيير لوتي أن يختصر الطريــق إلى مسقط رأســه ويتلمس روحــه الحاضرة («نصف الشرقية» كما كان يسميها) في هذا المكان الجميل.