تحمل كتب التراث العربي كنوزا فكرية وأدبية، في جميع مناحي الحياة، فلم يدع المؤلفون موضوعا لم يكتبوا فيه، فقد ألفوا في الموضوعات الجادة في دقائق العلوم والفنون ولم يغفلوا الموضوعات الطريفة، كما خصوا كل موضوع بتأليف، وكل مسألة بمصنف، وكل فن بكتاب أو رسالة، في جد أو هزل. "الوطن" تحاول في هذه الزاوية طرح بعض ما حوته تلك الكتب من معارف وفنون. 500 مجلدة بخط اليد يعّد كتاب "سرور النفس بمدارك الحواس الخمس" من الكتب العديدة التي اختصرها وهذبها محمد بن جلال الدين المكرّم، المعروف بابن منظور صاحب لسان العرب، حيث عني باختصار الكتب، فاختصر "الأغاني لأبي الفرج الأصفهاني"، و"زهر الآداب للحصري"، و"يتمية الدهر" للثعالبي، و"الذخيرة لابن بسام الشنتريني"، و"نوار المحاضرة" للتنوخي، و"صفة الصفوة" لابن الجوزي، و"تاريخ دمشق" لابن عساكر، و"تاريخ بغداد للخطيب"، وغيرها من الكتب، حتى قيل إن الكتب التي اختصرها تبلغ 500 مجلدة، كما ذكر ابنه قطب الدين أن والده ترك 500 مجلدة بخطه، وقد توفي ابن منظور عام 71. أما الأصل الذي اختصره ابن منظور فهو كتاب "فصل الخطاب في مدارك الحواس الخمس لأولي الألباب" لأبي الفضل أحمد بن يوسف التيفاشي صاحب كتاب "أزهار الأفكار في جواهر الأحجار"، وقد عني "التيفاشي" في تآليفه بالتصنيف في الموضوعات النادرة والطريفة، وله عدا الكتابين السابقين "قادمة الجناح في آداب النكاح"، و"مشكاة أنوار الخلفاء وعيون أخبار الظرفاء"، و"سجع الهديل في أخبار النيل"، و"الدرة الفائقة في محسن الأفارقة"، ودرة اللأل في عيون الأخبار ومستحسن الأشعار"، و"متعة الأسماع في علم السماع" وغيرها من الكتب. وقد حقق كتاب "سرور النفس بمدارك الحواس الخمس" الدكتور إحسان عباس وقدم له بمقدمة ضافية. تقريب ظواهر الطبيعة يقع الكتاب في جزأين عنون ابن منظور الجزء الأول منها بـ"نثار الأزهار في الليل والنهار"، وطبع هذا الجزء أكثر من مرة، والجزء الآخر عنوانه "طل الأسحار على الجلنار في الهواء والنار". والكتاب كما يصفه إحسان عباس يمثل حلقة مهمة في سلسلة الكتب الأدبية التي تقع موقعا وسطا بين المعرفة العلمية والتسلية بالمعرفة، ويكشف عن منجم كبير من الصور التي حاول الشعراء بها تقريب ظواهر الطبيعة إلى النفوس، وقسم ابن منظور كل جزء إلى أبواب، فالجزء الأول الذي أسماه "نثار الأزهار في الليل والنهار وأطايب أوقات الأصائل والأسحار وسائر ما يشتمل عليه من كواكبه الفلك الدوار" جعله في عشرة أبواب، والجزء الثاني من الكتاب هو "طل الأسحار على الجلنار في الهواء والنار، وجميع ما يحدث بين السماء والأرض من الآثار" جعله ابن منظور في عشرة أبواب أيضا، وحشد المؤلف في الكتاب قدرا كبيرا من المعارف والمعلومات والأخبار والآثار والشواهد القرآنية والشعرية، وضمنه أيضا فوائد في التفسير واللغة والنحو والأدب وتفسير الأحلام والفلك وغيرها ومما أورده من الأخبار. بين البخل والتأديب قال مسرور: قام الرشيد هارون يوما من فراشه إلى صلاة الغداة فصلى وخرج إلى موضع جلوسه، فرأى في بعض دهاليز القصر قنديلا مسرجا من الليل لم يطفأ إلى أن طلعت عليه الشمس، فأمر بإحضار الفراشين وضربهم في ذلك الموضع، فعجبت وقلت: ما عسى أن يكون قد ضاع من البزر في بقاء هذا القنديل مسرحا إلى هذا الوقت، ثم أخذ مجلسه ورفعت إليه الأشغال، فرفع إليه مشرف مطبخه ورقة فيها: إن الطباخ طلب منه عطرا لتطييب القدور بمبلغ كبير، وناولينها فأشفقت من أمرها لما وقفت عليه في صدر يومي من نظره في القنديل، ودافعت المشرف، وأمير المؤمنين يلحظني ولا أشعر، ولم يكن لي بد من رفعها، فرفعتها إليه فوقع فيها دون أن ينظرها، فعجبت من تفاوت حاليه، فلما قام من موضعه وأنا خلفه التفت إلي وأمسك بأذني وقال: قد رأيت ما فعلته بالفراش في هذا الموضع فأنكرته، وقلت في نفسك: ما عسى أن يكون ضاع من البزر في هذا القنديل، ثم حضرت ورقة المشرف فاستكثرتها، ولم يكن ما فعلته بخلا بما ضاع في القنديل والبزر، وإنما كان تأديبا للخدام في أن لا يغفلوا بما يحجب عليهم من الخدمة فيما دق وجل، بحيث لا يتعطل شغل من الأشغال. الهلال والنحو دخل عبدالله بن عمر بن غانم قاضي إفريقيا على أميرها يزيد بن حاتم، فجرى بينهما كلام ذكر فيه هلال رمضان، فقال إن غانم: أهللنا هلال رمضان فتشايرناه بالأيدي، فقال يزيد: لحنت يا ابن غانم، إنما هو تشاورناه، فقال ابن غانم: تشاورنا من الشورى وتشايرنا من الإشارة بالأيدي، قال: ما هو كذلك، قال: بيني وبينك أيها الأمير قتيبة النحوي، وكان إذ ذاك قدم على يزيد، وهو إمام الكوفة، فبعث إليه، وكان في قتيبة غفلة، فقال له يزيد: إذا رأيت الهلال وأشرت إليه وأشار إليه غيرك، كيف تقول؟ قال: أقول ربي وربك الله، فقال يزيد: ليس هذا أردنا، فقال ابن غانم: دعني أفهمه من طريق النحو، قال: فلا تلقنه إذاً، فقال له ابن غانم: إذا أشرت وأشار غيرك وقلت: تفاعلنا في الإشارة إليه كيف تقول؟ قال تشايرنا، وأنشد لكثير عزة، وقلت في الأحشاء داء مخامر ألا حبذا يا عز ذلك التشاير قال يزيد: فأين أنت يا قتيبة من التشاور؟ قال: هيهات أيها الأمير، ليس هذا من عملك، هذا من الإشارة وذاك من الشورى، فضحك يزيد وعرف جفاء قتيبة فأعرض عنه واستحى ابن غانم.