ربط عميق ودالّ ينسجه ببراعه المفكّر والأديب والناقد المتفرّد، نسيج وحده، عبدالله عبدالجبار، بين أساليب الكُتّاب واختلافها باختلاف ثقافاتهم وأصالتهم وأذواقهم ومرانهم وكذلك طبائع نفوسهم سواء أكانت سهلة أم كزّة جافية.. ومدى تمثيل الكاتب لروح العصر ومجافاته لهذه الروح المسيطر عليها من مزاج انطوائي أو انبساطي: مزاج كئيب حزين، أو مزاج متفتّح بهيج. تذكّرت هذا الربط وأنا أصغي لشكوى صديق من بعض الكتابات الموتورة – كما يصفها ويصف أصحابها بالمأزومين الذين يتخذون من مقالاتهم منصّة لتصدير كآباتهم وعُقدهم وأمزجتهم المنقوعة في بحر من التشاؤم والانخذال في لغة غامضة مبهمة تنم عن رغبة في التعالم واضفاء مسحة من العمق على ما يكتبون. في مقالة بعنوان عبقرية الوضوح للرائد المتجدّد الإبداع عبدالله عبدالجبار، أشار في مقدمتها إلى ما كتبه مصطفى الصباحي في إحدى يومياته تحت عنوان حين يكتب الكاتب حيث نعى فيها بعض الكُتّاب تعمّد الغموض والإبهام واستعمال الألفاظ الحوشية والأساليب الجافة والجاسية، ويضيف عبدالجبار: وأورد: لهذا الاستصخار الأدبي- حيث تخرج الكلمة من فم صاحبها كالصخرة المتحدّرة من قنة جبل- أسباب منها: أن تكون طبيعة القائل كزة مقفلة أو أن يكون قليل المحصول من اللغة فيلجأ إلى الغموض ليوصف باتساع المعرفة، أو أن يكون قليل المران، أو أن يفاخر بسعة الاطلاع على غريب اللغة ..إلخ. ولم يكتفِ الناقد الكبير عبدالله عبدالجبار بتشخيص تلك العلّة التي رُزئ بها بعض المتعالمين من الكُتاب، ولم يؤكد فقط على أن الوضوح مطلب مهم في الكتابة خصوصاً الصحفية السائرة وفي كثير من فنون النثر، بل إنه يرى أن الكاتب كلما كان واضحاً، كان ذلك أدلّ على قدرته وبلاغته وتمثله لموضوعه. ويلفت عبدالجبار إلى تجربة كتابية فذّة وهي تجربة الفيلسوف جورج برنارد شو في كتابه العظيم مرشد المرأة الذكية إلى الاشتراكية والرأسمالية والشيوعية والفاشية الذي يعتبر موسوعة كاملة في الاقتصاد السياسي، حيث ذلّل برنارد شو العقبات أمام ذلك الموضوع الخطير، وبسط تلك المعلومات المستعصية، وتجنّب ذكر الأرقام والمصطلحات التي تشوش على القارئ العادي، ووضع بين يدي ربّة البيت خلاصة تجاربه ودراساته في السياسة والدين والاقتصاد والاجتماع في ذلك الكتاب الحي النابض، حتى لكأنها- للطف تناوله ووضوح عبارته، وسحر براعته- تقرأ في مجلة الأزياء. بقي أن أشير إلى أن مقالة المفكر عبدالله عبدالجبار تم نشرها في صحيفة البلاد في 26- 5- 1381 هـ أي قبل 56 عاماً، ومع ذلك فهي خارطة طريق وعي كتابي للأجيال تستحق أن تُروى ويُتمثّل بمنهجيتها إذا كنّا نروم واقعاً كتابياً وثقافياً تتحقق من خلاله الرسالة السامية التي يضطلع بها الكاتب باعتباره صائغاً للوعي والاستنارة والتغيير.