ينظر مؤرخو الثقافة عادةً الى مدينة فيينا على اعتبارها المهد الذي منه نبعت حداثة القرن العشرين، في مجالات عديدة، عند الخط الزمني الفاصل - الواصل بين القرن الماضي والذي سبقه. فالتحليل النفسي ولد هناك، وفن الأوبريت والموسيقى الحديثة، كذلك ولدت بدايات الفن التشكيلي والأدب الميلودرامي وربما جزء من حداثة فن السينما أيضاً، ولو من طريق فنانين نمسويين سرعان ما وجدوا أنفسهم سادة في هوليوود (أريك فون شتروهايم، وبيلي وايلدر... بين آخرين). ويقول المؤرخون أن هذا كله لم يكن اعتباطياً. ذلك أنه إذا كانت فنون وآداب عديدة ولدت في فيينا، فإن الأهم من هذا كان أنها ولدت في ترابط بين بعضها البعض الى درجة أن كبار المؤرخين يقولون أن لولا التحليل النفسي، مثلاً، لكان من الصعب أن تولد روايات ستيفن تسفايغ الميلودرامية، ولولا موسيقى آلبن برغ كان من الصعب ديمومة لوحات كليمت... الخ. والحقيقة أنه إذا كان ثمة فن أمّن، في حد ذاته، هذا الترابط، فإنما هو فن العمران، الهندسة المعمارية التي لعب بعض أساطينها في ذلك الزمن دوراً تجاوز كثيراً المسألة العمرانية، مدخلين في الوقت نفسه، فنوناً عديدة، بل أنماطاً من الفكر أيضاً، في بوتقة العمران. ولعلّ مثل العمراني الكبير أوتو فاغنر، يصلح للبرهنة على هذا. سواء من خلال المشاريع العديدة التي حققها، أو من خلال المشاريع الأكثر عدداً التي لم يحققها. وإذا كان البحث عن التأثيرات والمؤثّرات المرتبطة بفن أوتو فاغنر، يصعب عبر رصد كل أعماله، فإن من الأجدى التوقف عند واحد من أهم مشاريعه وهو - ويا للغرابة! - مشروع لم يتحقق أبداً، اشتغل عليه الرجل طوال 14 عاماًَ، ليظل في النهاية حبراً على ورق. > هذا المشروع هو المعروف باسم «أكاديمية الفنون الجميلة»، والذي بقيت مخططاته وحكايته جزءاً من تاريخ فن العمارة عند بدايات القرن العشرين، الى جانب عشرات المشاريع الفاغنرية الأخرى التي حُققت بالفعل ولا تزال حتى اليوم تعطي مدينة فيينا نكهتها وفرادتها العمرانية التي لا تضاهى. بيد أن أهمية المشروع الذي نحن في صدده، تكمن في أنه كان محاولة مميزة للجمع بين العمران والفن والبيئة والطبيعة والتاريخ في حيز واحد. ولم يكن هذا غريباً على مبدع، صمم في العام 1909، مشروعاً آخر هو لنصب تذكاري هذه المرة... ولم يتحقق أيضاً، تحت عنوان «الثقافة» وأتى عبارة عن تمثال لربة من العصور القديمة (عشتروت مثلاً) وهي مرتدية ثوباً يحمل نقوشاً وألواناً غالباً ما نراها في لوحات كليمت، وتسير الى جانبها نمرة سوداء. وهذا كله فوق قاعدة مؤلفة من ستة أعمدة رخامية ناصعة البياض مع موتيفات تزيينية تنتمي الى «الآر ديكو». لقد تعمق الباحثون في تفسير دلالات هذا النصب.. ووردت في التفسير، بالطبع، أسماء فرويد وكليمت وعصور بابل وفينيقيا وحداثة الآر ديكو، ما وضع المشروع في خانة الجمع بين الماضي المجيد والحاضر الواعد وصولاً الى اعتباره تطبيقاً لعبارة كثيراً ما رددها فاغنر وتقول إن «الضرورة هي وحدها سيدة الفن». بالنسبة الى فاغنر، كانت الحياة واحتياجاتها هي ما يعطي الفن ضروريته وحتميته، ومن هنا لم يكن غريباً أن يكون شعاره الأساس في الحياة: «وحده ما هو عملي يكون جميلاً». > والحقيقة أن الترابط بين ما هو عملي وما هو جميل، ساد دائماً فن أوتو فاغنر العمراني.. لكنه ساد أكثر مشروع الأكاديمية الذي نتحدث عنه هنا.. وقد نتأمل صورته بحسرة كما يفعل كثر من أهل فيينا الذين يعتبرون المشروع مفخرة قومية حتى وإن ظل حبيس الخرائط والأوراق. ومهما يكن من أمر، فإن أهل فيينا يتندرون أيضاً بحكاية هذا المشروع.. إذ، كما أن لكل مشروع حكاية. تقول الحكاية أن فاغنر عيّن سنة 1894 أستاذاً في أكاديمية الفنون الجميلة في فيينا. وكانت تلك الأكاديمية تعتبر في ذلك الحين أهم وأشهر مدرسة فنية عليا في إمبراطورية آل هابسبورغ، لذلك كانت مقصداً لطلاب الفن من أنحاء أوروبا كافة. وحين عُين فاغنر فيها، لاحظ من فوره أن مبناها الذي كان صممه ونفذه العمراني تيوفيل هانسن، والذي أنجز في العام 1877 في أسلوب نيونهضوي مطلاً على ساحة شيلر في وسط فيينا، بات عاجزاً عن استقبال المزيد من الطلاب وعن مساندة أي تجديد أو تطوير. ولما كان فاغنر يعيش في ذلك الحين ذروة دعوته الى هندسة جديدة تتواكب مع التطورات الفنية والفكرية، كان لا بد له أن يرى أن المبنى الأكاديمي القائم لم يعد يتناسب مع التطلعات الجديدة. ومن هنا، بعد محاولات منه دؤوبة لإثارة اهتمام المسؤولين بالأمر، رأى أن لا بد له الآن من أن يجرب أسلوب إقناع آخر، طالما فشلت كل أساليبه الأخرى. ورأى أن الأسلوب الأكثر نجاعة يكمن في اللجوء الى الصحافة، التي كانت في ذلك الحين حاملة لواء الدعوة الى كل جديد وكل ثوري. لكن فاغنر لم يكن قادراً على أن تحمل الدعوة اسمه. ومن هنا ظهر في خريف سنة 1897، مقال صحافي، سيقول كثر لاحقاً أن فاغنر كان هو كاتبه، من دون أن يوقّعه. وهذا المقال نصّ على ما يلي: «إن صندوق الادخار التابع لمصلحة البريد، صار من النجاح والازدهار بحيث أن مبناه الحالي بات عاجزاً عن استيعاب زواره وزبائنه ومكاتبه. لذا صار في الإمكان نقل موقعه الى المبنى الذي تشغله أكاديمية الفنون، علماً كما يقول المقال أن هذا المبنى الذي يفترض أنه مقر للفن والثقافة، يتماشى مع الوظيفة المصرفية الادخارية أكثر بكثير مما يتماشى مع أية وظيفة فنية إبداعية»، خصوصاً أن له موقعاً مميزاً في وسط المدينة وعالمها التجاري، وهو موقع لا تحتاجه أكاديمية فنية يتعين أن يكون موقعها في مكان آخر تماماً. وكان من نتائج هذا المقال التأكيد، في المقابل، أن الفنون باتت في حاجة الى مبنى جديد، أكد المقال أنه قيد الدراسة حالياً بعد أن تم اختيار منطقة دورنباخ في الضاحية الغربية لفيينا موقعاً طبيعياً ومميزاً له. > وفور نشر المقال، وكما لو أن العمراني يستجيب لمطلب الصحافة الشعبية، أعلن أوتو فاغنر عن مشروعه الجديد، الذي كان اشتغل عليه مع أربعة من تلاميذه صاروا جميعاً من أشهر المعماريين النمسويين. وفي غضون أسابيع، كان فاغنر ومعاونوه يقدّمون المشروع لمناسبة المعرض الثاني المقام في فيينا. في ذلك الحين، نال مشروع فاغنر تأييد كل الأساتذة من زملائه في الأكاديمية ومناصرتهم، كما أن فاغنر نفسه أعلن أنه سيعمل على المشروع مجاناً لو تمت الموافقة الرسمية عليه. ومع هذا، لم تأت تلك الموافقة أبداً. بل لاحقاً حين صاغ فاغنر مشروعاً آخر في الاتجاه نفسه، وأد هذا المشروع الآخر. مات المشروع، لكن صوره وأحلام أصحابه بقيت، تكشف أن المشروعين يتحدثان، مع فروقات بسيطة، عن مجمع عمراني يقوم وسط الطبيعة الخلابة ويتألف من مبنى رئيسي ألحقت به حديقة فسيحة الأرجاء بنيت فيها أجنحة القصد منها أن يكون كل جناح محترفاً فنياً، ووُزّع بناؤها على زوايا ممرات خضراء منظمة الهندسة. ويضم المبنى الرئيسي، وفق المشروع، الفناء الأساسي الذي يشغله مدخل الأكاديمية ثم قاعة استقبال ضخمة، إضافة الى المباني الجانبية الملحقة التي تضم الإدارة وصالات المحاضرات، وأقسام متحف الأكاديمية حيث تعرض المجموعات الفنية. وكان من الواضح في هذا التصميم، استجابته لنزعة فاغنر الثورية في المضمون، والتطويرية في الشكل وكذلك إلحاحه على أن العمران يجب أن يصبح جزءاً من الطبيعة المحيطة به. > لم ينفذ أوتو فاعنر (1841 - 1918) هذا المشروع كما أشرنا، لكن هذا العمراني الذي ولد غير بعيد من فيينا ليموت فيها بعد سبعة وسبعين عاماً، صمّم العديد من مباني هذه المدينة ونفذها، مبان رسمية وأخرى سكنية، معظمها لا يزال حتى اليوم شاهداً على ذلك التزاوج لدى فاغنر بين الفن والحياة، بين البعد البصري والبعد العملي، ثم بخاصة بين مختلف الأزمان الهندسية، ناهيك بكون العديد من مبانيه ينسجم مع دراسات فرويد للإنسان في حياته اليومية وفي احتياجاته. وهي نزعة سادت طويلاً بعد فاغنر، وإن كانت الهندسة العمرانية الحديثة تميل الآن الى نسيانها.