×
محافظة جازان

كومة تراب لدرء السيول بضمد

صورة الخبر

يقابل، من يعمل في مهنتنا، الكثير من البشر، ويستمع إلى أنهار من الكلام، ثم يمضي أغلبها إلى مصبات النسيان ولا يبقى في الذاكرة سوى ومضات تسجل وتستعاد. ومن هذه الومضات، ما سمعته من المصور الفوتوغرافي فاروق إبراهيم، قال إنه صور جنازة أم كلثوم وسار مع الملايين وراء نعشها وهو يعرف أنه خال. لا أدري لماذا نكتب عنها في ذكرى رحيلها طالما أن صوتها باق معنا أكثر من أي صوت آخر ولم ينقطع. ونحن نقول عن الأحياء إن «حسهم في الدنيا». وحسها ما زال يتسلل إلينا من المذياع ومن أجهزة التسجيل والأسطوانات والتلفزيون، ومن تلك البرامج الكثيرة التي تتنافس فيها الحناجر القوية على ألقاب وجوائز مالية، فإذا بالعشرات من الشابات الموهوبات يؤدين أغنيات أم كلثوم، من حضرموت إلى الدار البيضاء. كنت صغيرة، حين صدرت أوامر الوالد لشقيقاتي الأكبر مني بأن السهر، ليلة الخميس الأول من الشهر، للاستماع إلى أم كلثوم من راديو البيت، ممنوع. كان التفاعل مع أغنياتها، بالنسبة له، يعني أن البنات عاشقات. وهو أمر لا يمكن أن يقبله أب شرقي. وقد طبقنا الأوامر في الشتاء، أما في الصيف فكان الترانزستور الياباني قد وصل إلى بلادنا، وكنا نأخذه معنا إلى السطح، حيث ينام العراقيون عادة طلبا للبرودة، ونتجمع لنتابع حفلها، خلسة. ثم حدث وذهب أبي إلى مؤتمر المحامين العرب في القاهرة، وتصادف أن كان هناك حفل لأم كلثوم دعي الضيوف إليه، فعاد وهو يدندن بما أطربه وألغى قرار الحظر. كان فاروق إبراهيم مصورها الخاص. وبعد سنوات من رحيلها لحق بها. ولم يكن له مكتب بل «فيلا» أنيقة في القاهرة تجمع كنزه الخاص، أي تلك اللقطات النادرة التي فاز بها خلال حياة حافلة كان فيها على قيد خطوات من الرؤساء والملوك والنجوم، يصورهم دون أن يظهر في الصورة. وهو قد بدأ عمله في جريدة «المصري»، صبيا يرسله المحررون والمصورون ليشتري لهم السجائر والساندويتشات. ومنهم تعلم المهنة وجازف بالسفر إلى الإسكندرية وتصوير حفلة لأم كلثوم هناك. كانت فاتحة الحظ، فقد أخذ رئيس التحرير الصورة ونشرها في «آخر ساعة». ويبدو أنها أعجبت «الست» فاتصلت بأنيس منصور وسألته: «مين العفريت الذي أخذ الصورة؟». وطلبت نسخا منها وأن يفوت عليها العفريت في منزلها مع النسخ. حلق شعره واشترى رابطة عنق ووقف أمام فيلتها قبل الموعد بساعة. ولما دخل رحبت به الخادمة وقادته إلى الصالون الكبير. ثم جاءت «الست» وسألته: «فين إبراهيم؟». ولما عرفت أنه هو، قالت: «ده أنت عيل.. تعالى يا منيِّل نقعد في الصالون الصغير». ومن يومها وهو مصورها الخاص، يسافر معها إلى تونس ويراها متلفعة بـ«السفساري»، الذي قدمته لها وسيلة بورقيبة، وإلى السودان وهي تتمازح مع السيدات وترد النكتة بنكتة، وإلى الحفل الذي غنت فيه «أنت عمري» وصور عبد الوهاب يختبئ وراء ستارة المسرح وهو يتمتم بالأدعية، وإلى موسكو حين بكت بعد أن جاءها خبر رحيل عبد الناصر. ولم تكن تلك اللقطة الوحيدة لها وهي تبكي. ففي حصيلة فاروق إبراهيم صورة تقف فيها إلى جوار ممثل منظمة التحرير الفلسطينية في القاهرة، تسبل عينيها ودموعها تسيل بصمت، تستمع إلى معاناة أطفال اللاجئين. احتفظ المصور، في ملف خاص، بمجموعة من اللقطات الحميمة التي رأى أنها «لا تصلح للنشر». منها واحدة لطفلة تصعد على الطاولة وتتحزم لترقص أمام أم كلثوم التي بدت عليها علامات الإعجاب والانبساط الشديد. إنها شيريهان التي كانت بنت خمس سنوات. وهناك لقطة أخرى لـ«الست» بين ذراعي ابن أخيها، على شاطئ البحر في العجمي، يحملها مثل طفلة ويخوض بها في الماء. وقد دخلت الصورة إلى ملف الممنوعات لأن طرفا من ثيابها الداخلية يظهر من تحت تنورتها. أما الصورة التي كادت توقع القطيعة بين كوكب الشرق ومصورها فهي تلك المأخوذة على مسرح «الأولمبيا» في باريس، حين خرج معجب من الصفوف وهجم على قدميها يقبلهما. وسارع رجال الأمن يسحبونه فسحبها معه وسقطت جالسة على المسرح.. وخلد فاروق اللحظة. هل يراعي الود العميق بينهما أم يستجيب لحاسته الصحافية؟ اختار الثانية وبعث بالصورة إلى «أخبار اليوم» ونشرت دون اسم المصور. كان ذلك شرطه. ولما رأتها أم كلثوم ثارت وتصورت أن صاحبها مصور «من الأعداء»، وراحت تؤنبه لأنه سمح للأجانب بتصويرها في ذلك الوضع. وكان لا بد من أن يعترف لها بالحقيقة ويتحمل غضبتها. حين ذهب لتصوير جنازتها، كان يعرف أنهم قد أخذوا الجثمان للدفن، قبل الفجر، خشية أن تتخاطفه أيدي الجماهير المنفعلة. ومع هذا كتم السر وقام بتصوير النعش الخالي وكأنها راقدة فيه. أدى واجبه والتقط مئات الصور للحشود الباكية والنساء المولولات في الشرفات، دون أن تنفر منه دمعة. قال لي إنه، لما انتهى من تظهير الصور وسلمها للجريدة، عاد إلى بيته ناقصا وكأن جزءا عزيزا منه قد بتر، فبكى.