«إن الأخلاق الحقيقية تسخر من الأخلاق». ماذا كان موقفك حين قرأتها.. هل صدقتها فورا أم جعلت بينك وبينها سدا يبلغ «سد الذرائع» طولا؟ ظني الواسع أنك صدقتها.. فالقيم الأخلاقية الحقيقية تكاد تصاب بداء القهقرى في مجتمعاتنا.. وأصبح البيت الشعري القديم: ثوب الرياء يشف عما تحته فإذا التحفت به فإنك عار أصبح هذا البيت يضحك من شاعره وعليه.. ويخجل حين يمر على سمع المجتمع وبصره.. ذلك لأن العري من الأخلاق لم يصبح شاذا، بل اللاعري الأخلاقي هو الذي أصبح يسكن بجوار العنقاء، بل أصبحت كلمات من الازدراء والاحتقار بالغ الوقاحة تطلق على المتمسك بالأخلاق مثل: أبله وطوباي ومغفل وأدلوجي.. نعم حتى كلمة أدلوجي انتقلت من قاموس الإطراء إلى قاموس الازدراء في زماننا هذا الذي يمشي على رأسه.. وهنا يصح أن نسأل: أيهما يسخر من الآخر... ما أظنه- خلاف باسكال- هو أن الأخلاق المنافقة والمزيفة هي التي أصبحت تسخر من الأخلاق الحقيقية.. لماذا؟ لا أريد الإطلاق هنا لا على المجتمعات ولا على الأفراد.. إذ لا شك في وجود القيم الأخلاقية عند كل المجتمعات بصورة نسبية.. وأعتقد أن النسبية هذه ناشئة من مواقع المجتمعات والأفراد في السلم الحضاري.. أما الوصف أو القول إن القيم الأخلاقية تجاورت مع العنقاء فهي فاكهة بلاغية. المفروض أن الأقوى هو الذي يسخر من الأضعف لا العكس، وأعتقد أن أخلاق النفاق والرياء والعبودية الطوعية والإصغاء لخشخشة الورق في البنك هي التي طغت في البلدان العربية كافة وهي سبب الهزائم على كل صعيد.. وهي التي يحق لها أن تسخر ولو مؤقتا. من جانب آخر يبقى التطور الأخلاقي صعودا وهبوطا وليد التاريخ.. ذلك لأن موضوع علم الأخلاق هو السلوك، والسلوك ظاهرة اجتماعية، أي إن قواعد السلوك نشأت من رؤية اجتماعية للإنسان وحياته المشتركة.. وحيث إن الأخلاق تابعة لنمو المعرفة عند الإنسان ورهافة الحس الاجتماعي لديه بدأ نمو الإخلاق في اطراد. وإذا أردت أن تعرف ماذا فعله نمو المعرفة في صنعه لسلم القيم فاقرأ إن أردت شريعة حمورابي ثم اقرأ قائمة حقوق الإنسان في الأمم المتحدة بدءا من الثورة الفرنسية الفاصلة.