من العبارات التي لا تُنسى مقولة: إن النظام- أي نظام- مثل السمكة، يبدأ فساده من منطقة الرأس. ودول العالم وأنظمتها السياسية تحاول- وهذا شيء مألوف- استخدام كل الأدوات التي تتواصل بها مع الناس لتحقيق أغراض عدة من أبرزها تعزيز شرعيتها، وكسب ولاء الناس عبر تبني ورعاية تلك الأدوات، التي تُعد الرياضة واحدة من أبرزها؛ حيث تحرص الواجهات السياسية على تبني مظاهر البريق الذي تحققه الرياضة على المستويات الوطنية والخارجية. في العالم الثالث وفي بعض البلدان العربية هناك استخدام غريب للرياضة، حيث استخدمت، وربما ستُستخدم للتضييق على الناس! وتنفيرهم من النظام ورموزه ولا يكون ذلك إلا عندما تستخدم الانظمة الأدوات الخطأ في الوقت الخطأ وتحاول معاقبة الناس بالوسيلة الخاطئة. عندما تتحول أدوات الترفيه الجماهيري إلى وسائل عقاب جماعي!! في البلاد الليبية استخدم نظام معمر القذافي العصي الغليظة دائما حتى وهو يقدم للناس وجبة الترفيه التي هي من واجبات الدولة. ويجب التوقف عند حقيقتين حول الرياضة في البلاد الليبية، الحقيقة الاولى أن ليبيا كدولة عربية لم يكن لها حضور ملموس على خريطة كرة القدم العربية أو الأفريقية، حيث يؤكد المسح العلمي لهذه الظاهرة وتطورها أن نظام القذافي أدرك متأخرا أهمية كرة القدم في دعم وجوده وقدرتها على تجميع الناس حول النظام وأطروحاته، ومع ذلك سارع بمعالجة هذا الادراك بخطأ قاتل عندما عين نجله الثالث الساعدي رئيسا لاتحاد كرة القدم، كما عين ابنه الاخر محمد رئيسا للجنة الاولمبية الليبية، في محاولة للحاق بالركب العربي المتقدم نسبيا من خلال التعاقد مع كبار المدربين واشهرهم على مستوى العالم، ولكن النتائج كانت اقل من المرجو دائما. الحقيقة الاخرى وهي تاريخية بحتة وتشير إلى ان الناس في ليبيا عرفوا كرة القدم منذ وقت مبكر، أي مع بدايات الاستعمار الايطالي، وكان اول ناد اسس بمدينة بنغازي نادي الصابري، وفي العام 1938م تأسس نادي الكشاف الذي اصبح يطلق عليه في مرحلة لاحقة نادي جمعية عمر المختار وعرف عددا من الاسماء إلى أن استقرت تسميته على نادي أهلي بنغازي 1948م. وعند الحديث عن الرياضة، والسياسة يتذكر المرء المقولة التي تشير إلى ان السياسة تصلح ما تفسده الحروب، والرياضة تصلح ما تفسده السياسة. هذه المقولة يمكن ان تنطبق في أي مكان في العالم إلا في بعض بلدان العالم الثالث وفي ليبيا تحديدا في مرحلة ما قبل ثورة 17 فبراير2011م، ويعود ذلك لعدة أمور في تقديرنا أهمها غياب درجة عالية من المصالحة والتصالح بين النظام ورموزه مع مدينة بنغازي التي غالبا ما كان القذافي يصفها بحبيبته وسط تهكم وعدم تصديق الناس، الامر الاخر أن الادوات السياسية التي كان من المفروض ان تستخدم الرياضة كأداة تقريب وانصهار بين الليبيين الذين يعشقون كرة القدم استخدمت بطريقة مجافية للصواب وخلقت حاجزا بين الناس وبين النظام، وأفسدت أكثر مما اصلحت. يضاف إلى ما سبق الغرائبية في التعامل مع كل شيء في ليبيا حتى مع الرياضة وأساليبها المستقرة والمتعارف عليها في كل دول العالم، فكان يُمنع ان تذكر على سبيل المثال اسماء اللاعبين لكرة القدم، ويكتفى فقط بذكر الارقام الخاصة بهم، أي باللاعبين. هذا في ظل شغف كبير للناس بكرة القدم. سبب ذلك لم يوضح بشكل جلي ولكن اكثر من مصدر يقول: إن ذلك كان يحدث، تحاشيا لان ينال أي من اللاعبين الذين يجلهم الناس اعجابا وتقديرا يفوق التقدير والاعجاب برمز النظام الاوحد! ذلك الترتيب الغريب يسري على الجميع إلا على ابن الزعيم الساعدي، عندما يشارك بقية الليبيين اللعب!! والابن الثالث للزعيم مثل غيره من الليبيين يعشق كرة القدم، ويُروى عنه أنه كان يرى نفسه لاعب كرة قدم عظيما. وفي وقت من الاوقات لم يكتف بأن يكون قائدا للمنتخب الوطني الليبي، بل أصبح مالكا، ومديرا وقائدا لفريق أهلي طرابلس، فريق الدوري الأول في العاصمة. تشاء الاقدار أن يكون في مدينة بنغازي المدينة التي تشكل المعادل النفسي والصدامي للنظام نادي اهلي بنغازي الذي تمت الاشارة إلى تأسيسه في وقت مبكر. هذا التكرار خلق لدى الساعدي تصورا بأنه يجب أن يغيب عن الوجود الاهلي المكرر والذي ربما هو الأصل. أي اهلي بنغازي، وبدأت حرب اسقاط أهلي بنغازي إلى مصاف اندية الدرجة الثانية عبر وسائل كثيرة منها شراء اللاعبين المتميزين، أي افراغ النادي من ذخيرته، ورشوة الحكام للوقوف ضد اهلي بنغازي واعطاء فرص الفوز لمنافسيه. استمرت حالة الحرب غير المعلنة ضد النادي من قبل الساعدي إلى أن اقيمت مباراة لكرة القدم يتذكرها عشاق كرة القدم ومتابعو الصراع السياسي المختبئ تحت رايات الرياضة. وفي مباراة لاهلي بنغازي مع ناد اخر اصر فيها الحكام على تفويز النادي المنافس باحتساب عدة ضربات جزاء، احرقت اعصاب الجماهير الغفيرة لنادي اهلي بنغازي، الذين ثاروا واقتحموا ارض الملعب، وانتشروا في المدينة معلنين غضبهم بإحراق صورة الزعيم لاول مرة في ليبيا. ولم يقف طوفان غضب الناس عند ذلك الحد، حيث اقتادت الجماهير في شوارع المدينة حمارا يلبس قميصا يحمل رقم 10 وهو رقم الساعدي القذافي. هنا يمكن للمراقب تسجيل لحظة تقاطع حرجة بين أدوات أحد الاوجه المحتملة للصراع في المجتمعات التقليدية، وهي السياسة والرياضة والفساد، ويمكن أن ترصد وبسهولة لحظة التوظيف الخاطئ للاداة الترفيهية الاشهر في العالم لتثوير الناس. المفيد ان رد السلطة لم يعرف التريث وتم اعتقال عدد من مشجعي نادي اهلي بنغازي، وتذكر تقارير حقوقية أن بعضا منهم اعتقل لسنوات!! وأن أكثرهم تعرض لتعذيب قاس. وفي الذكرى الحادية والثلاثين لثورة الفاتح، التي اوصلت القذافي للسلطة تحركت جرافات اختلفت الروايات حول من امر بتحريكها وتوجهها إلى مقر نادي اهلي بنغازي وسوته بالارض، وابشع من ذلك قيل ان النظام اجبر مواطنين على التجمع والهتاف لاعمال الهدم والازالة، وترجح المصادر ان مثل هذا القرار لا يتخذ إلا من جهة الاب، وان كانت هناك مساهمة للابناء الساعدي أو غيره فقد لا تتجاوز التنفيذ والاشراف. تصرف مثل هذا لا يمكن ان يجلب انصارا لا للنظام ولا للقائد الذي يحتفل بمناسبة ما بهدم موقع يمثل للملايين معاني كثيرة. الغريب ان النظام سمح باستمرار احد رموزه «الساعدي» بلعب دور في الدائرة الرياضية الامر الذي من المؤكد انه شكل استفزازا للناس حتى وإن لم يصرحوا بمكنونات أنفسهم. حيث استمر الساعدي في ممارسة كرة القدم ولكن بدون تحقيق نتائج تذكر. الاكثر غرابة واستفزازا للناس ان يلعب الساعدي لاندية اجنبية، وايطالية على وجه الخصوص. وبموجب اتفاقات غريبة ولم يعرفها العالم من قبل، حيث إن اللاعب أي «الساعدي» هو الذي كان يدفع الاموال إلى الاندية الاجنبية التي يلعب لصالحها، بدل أن يحدث العكس. وللقارئ الكريم ان يتخيل كمية الاحباط التي تصيب الانسان الليبي وهو يتابع مثل هذه الحقائق الحمقاء. لم تكن الرياضة في ليبيا على المستوى الداخلي، وسيلة لترفيه الناس وكسب تعاطفهم مع النظام كما يحدث في بعض دول العالم، وعلى مستوى الخارج استغل النظام الرياضة في توثيق علاقاته مع دول بعينها، وقاطع دولا محددة رياضيا، بناء على تفضيلات صانع السياسة ورغباته، دون اعتبار للمصلحة العامة ومصلحة البلاد والعباد.