من أمتع الكتب المعروفة تاريخ «عجائب الآثار في التراجم والأخبار»، للشيخ عبد الرحمن الجبرتي. لكن الطبعة التي أحاول قراءتها الآن، منفرة، لا متعة فيها. فهي خالية من التنقيط، عارية من الفواصل، محرومة من الفقرات، ممنوع عليها الشروح. لا أدري ماذا فعل الناشر سوى أنه أمر العمّال بنقل المخطوطة إلى المطبعة ثم بالعودة بها كتابا مطبوعا، لا نقاط فيه ولا فواصل ولا فقرات ولا شروحا. على الرغم مما طرأ على حركة النشر العربي من تطور، لا تزال المكتبة مغمورة بكتب تدل على أن الناشر لم يقرأها ولا كلف أحدا أن يقرأها، خصوصا، بعض القديم منها. وكون القديم قديما لا يعفيه من الخطأ الذي لا يعفى منه أي بشري. حاوِل أن تقرأ – أو أن تفهم – الفقرة التالية من «شرحي الإشارات لنصير الدين الطوسي والإمام فخر الدين الرازي، الطبعة الأولى بالمطبعة الخيرية، 1335: وهذه النكتة غير مناسبة بحسب النوع للغرض، ومناسبة بحسب الجنس. أقول الكلام كان في المركبات ونسبتها في المزاج وإنجر إلى ابطال المذاهب المخالفة لذلك وهذا البحث لا يناسبه من حيث تعلقه بالمزاج والتركيب ويناسبه من حيث تعلقه بالعناصر التي هي أصول التركيب في المزاج، فكان مناسبا بحسب الجنس دون النوع. وكان الأصوب أن يقول وهذه النكتة غير مناسبة بحسب الصورة ومناسبة بحسب المادة والغرض من إيراد هذه النكتة هو التنبيه على أن كون النار المحيطة بسائر العناصر غير مرئية هو لبساطتها». وفي الصفحة 168 من الكتاب نفسه: «أنه قد يجوز ذلك ولكن يكون فيه إلحاق كلي بكلي يجعله صورة أخرى ليس جزءا من الصورة الأولى، فإن المعقول الجنسي والنوعي لا تنقسم ذاته في معقوليته إلى معقولات صنفية ونوعية يكون مجموعها حاصل المعنى الواحد الجنسي أو النوعي ولا تكون نسبتها إلى المعنى الواحد المقسوم نسبة الأجزاء بل نسبة الجزئيات.. ».. إلخ إلخ إلخ. بل خذ هذا النموذج من «تهافت التهافت» لكبير الفلاسفة ابن رشد: «إن ذلك لم يكن كذلك لأن ذلك لم يكن في قول الشارح الأول كذلك ليس إلا فقول أبي حامد.. ».. إلخ. الكتّاب يخطئون. الفلاسفة يسهون. وعلى الناشر أن يقدم لقارئه عملا مصقولا، أو على الأقل مقروءا: قال لي صديق مؤلف إن ناشره لاحقه بالمكالمات حتى عثر عليه في أميركا، ليقول له: «يا فلان، إنك تستخدم كلمة برهة مرات عديدة بمعنى اللحظة، لكن معناها عكس ذلك تماما، أي الوقت الطويل، فماذا تريدنا أن نفعل؟». رد المؤلف: «أنت الناشر وأنت من يحترم نفسه أكثر مني. افعل ما تشاء». كان تعليقي أن معنى البرهة في أذهان الأغلبية هو اللمحة الخاطفة، فماذا يضير أن تبقى كذلك؟ قال: حاولت أن أشرح ذلك للناشر في البداية، وقال ضاحكا: سُمعتنا بين أهل الكتب أننا نفضل الصحيح على الخطأ الشائع. وإذا كانت الأغلبية على خطأ وجب تحذيرها.