يبدو أننا أصبحنا في حاجة ماسة إلى إعادة النظر في العملية التعليمية بمختلف مستوياتها – عامة وفنية / تقنية وعليا- بعد أن وصلنا ، وأوصلتنا ظروف الحياة وتطور النظام العالمي الجديد إلى مفترق طرق علينا أن نحدد فيه وجهتنا ، وذلك انطلاقا من قراءة مسيرة تطورنا الذاتي ، وليس – كما يحاول البعض أن يقنعنا- استجابة لأي ضغوطات خارجية ، فهذا ما ليس منطقيا ، ولا يمكن أن يكون عقلانيا بأي حال من الأحوال . فنحن نعاني مثلما تعاني الدول العربية الأخرى من فجوة ما فتئت نتعاظم ما بين مخرجات التعليم واحتياجات سوق العمل . هذه الفجوة تسببت في العديد من المشاكل ، منها على سبيل المثال لا الحصر : سيطرة العمالة الوافدة شبة التامة على سوق التي تمثل أكثر من 95% من حجم سوق العمل من حيث العمالة الموظفة ، والعطالة التي تفشت بين الشباب بما تقدره أكثر المصادر تفاؤلا بحوالي 30% ، والتحويلات النقدية تسرب خارج المملكة وسوقها بما يقدر بأكثر من (45) مليار دولار امريكي سنويا ، والكثير من التشوهات التي لحقت بهوية إنسان هذا البلد . هذا الواقع فيها المتقد كاف لوحده حتى ننتبه إلى ضرورة إعادة النظر في مجمل العملية التعليمية لنحاول أن نسدد بها هذه الفجوة ، وحتى – وهذا هو الأهم – ندفع مسيرتنا التنموية إلى الإمام بالسواعد الوطنية الحقيقية ولسنا من مسألة إعادة النظر في العملية التعليمية بدعا بين الشعوب ، فالمجتمعات الصناعية الكبرى في عالمنا ، وخاصة في الولايات المتحدة الأمريكية وهي الدولة الصناعية الأولى ، تولى عناية خاصة للتعليم العالي والتعليم الثانوي بشكل أخص ، ولا يقتصر هذا الاهتمام وهذه العناية على المهتمين بالتربية والعلوم الاجتماعية فقط ، وإنما هو يمتد ليشمل السياسيين والاقتصاديين . إذ أن إعداد طلاب المرحلة الثانوية للمشاركة في سوق العمل ، وخاصة في القطاع الخاص تعتبر من أهم القضايا التي تشغل بال التربويين و السياسيين والاقتصاديين ، لأنهم يمثلون الشريحة الأكبر بين المواطنين في سن العمل ، علما بأنهم في المملكة يشكلون عدديا أكثر من (80%) من إجمال الكتلة الطلابية بمختلف مستوياتها ومراحلها . وذلك بعد أن استقر في مفهوم و قناعات صانع القرار السياسي التربوي والاقتصادي أن المنافسة الاقتصادية والبقاء على قمة الهرم الاقتصادي العالمي في عصر العولمة يتطلب العمل على إحلال مفهوم جديد للتعليم بتعدي الفهم القائم على إكساب الطالب المهارات الأكاديمية النظرية ، وحشو ذهنه بالمعلومات ، إلى مفهوم بديل وهو التعليم الشامل . ويقصد بهذا المفهوم إكساب الطالب – وخاصة طلاب المرحلة الثانوية – العديد من المهارات المتنوعة والقيم التي يحتاجها المجتمع ، وخاصة سوق العمل ، من خلال المناهج المدرسية ، وذلك بعد أن أتضح وأصبح في حكم اليقين أن سوق العمل بالمفهوم الشامل هو المدخل الرئيسي للنمو الاقتصادي للدول والمجتمعات بل وحتى للأسر والأفراد . لهذا عمدة العديد من الدول الصناعية كألمانيا واليابان إلى تطبيق برنامج من المدرسة إلى العمل من مدارسها الثانوية وتقوم فكرة هذا البرنامج على إكساب طلاب هذه المرحلة المهارات المهنية ، وقد ذهبت اليابان أبعد من الجميع حين عملت إقامة وتمتين العلاقة بين الشركات والمؤسسات في القطاع الخاص وبين المدارس الثانوية . ليس لتطور المجتمعات حدود ينتهي عندها ، وإنما هو أفق مفتوح بلا حدود ، لذا وحين اكتملت البنيات التحتية من برامج هذه الدول لتنمية مواردها البشرية اللازمة لتغطية احتياجات سوق العمل فيها ، أخذ التركيز يقل على تزويد طلاب المرحلة الثانوية بالمهارات المهنية ، وذلك بسبب التطور التكنولوجي الكبير والقفزة التي حققتها تقنية الاتصال والمعلوماتية ، مما أدخل المزيد من التنوع في سوق العمل ، والمزيد من الاحتياجات العلمية والعملية ، وكان لا بد بالتالي للاستجابة إلى هذه الاحتياجات المستجدة من وضع تصور جديد في برامج التأهيل لسد هذه الفجوة بين مخرجات التعليم ومتطلبات واحتياجات سوق العمل . وحلت محل الحاجة إلى المهارات المهنية ، حاجة أخرى تتمثل في مهارات مختلفة ومتنوعة تواكب هذا التطور الجديد في سوق العمل الذي تغيرت معطياتة . وقد توصلت الدراسات والأبحاث التي ايجزت في هذا الصدد إلى ضرورة العمل على تزويد الطالب بثلاثة أنواع من المهارات : اجتماعية وشخصية ومهارات كفاية . الأول تتمثل في القدرة على العمل الجماعي والتخاطب و القيادة والقدرة التكيف ، والواقعية . أما الثانية ، وهي المهارات الشخصية فتتمثل في الثقة بالنفس والطموح والاستعداد للتطور والقدرة على المقترحات وتنفيذها بروح المبادرة . وأما مهارات الكفاية فتتلخص في أساسيات الحاسب الآلي والقدرة على الطباعة والاستعداد للتدريب ، والقدرة على التفكير والإبداع . وعلى هذا يتأكد لنا جليا أننا الآن يجب أن نعمل على وضع تصور جديد للعملية التربوية والتعليمية يشارك في وصفها كل من له علاقة بالعملية التربوية و السياسية والاقتصاد في اتجاه التعليم الشامل .